رأيتها والسنونوات عند رأسها، ومشاتل الورد كأنها ما تزال في حديقة بيتها بالناصرة تطل من شرفتها الزرقاء عليهم، تحصي أعداد الجذور الخارجة للحياة، تكمش أوراق الميرمية الخضراء من مرج عامر وتلف حنجرتها المثقوبة بالكوفية المخطوطة، تحفظ الباقي من أوتارها وتصلي صلاة الغائبين نيابةً عنها. ورأيتها تعد افطارها من زرع الأرض، تطهو وجبتها من عجين السنبلات الغافية وقت الصيف، تطحن الحبوب بيديها وتعطر يديها بفرن العريشة تحشو حطب الزيتون في عين النار المجدولة مثل شعر الفلاحات وجارات قوس قزح وقت رقصةِ العصر.
ورأيتها مثل عين الماء الدافئ توزع الخير على المارين، تُسقي الحاضرينَ من رزق الأرض تسأل العطشى، تنادي على الكنعانيات، يجتمعنَ مثل حواري البلاد لصوتها تلبسهن أثواب مشكوكة بتعاريج الورد ويديها الضاحكتان، تبدوا الوجوه طافحة بالحياة وبألوان الريم. ورأيتها في زاوية بيتها، أمامها رئة قلبها الزرقاء تنفخ الريح في الخريف، تنادي الاشجار من شرفة النافذة، تفرش الشال فوق الطاولة وكرات الألوان من حولها تُضحكها الألوان الزرقاء وأزهار الفراشات تطرز بيديها كلمات درويش وسميح القاسم على قطعٍ من القماش وتصنع منها أساور وكلاكيل الشتاء وأقراط الفاتنات كأنها تجهز الحزينات للفرح.
وتذكرتها كيف كان رأسها مثل صحنِ الضاحكات دون جدائل ورد، تقف جنب المرآة، تنظر للمرأة في داخلها، تضع يديها فوق الجُرح تسأل مرآتها " مرآتي يا مرآتي من أجمل؟ أنا أم سوسو، تقصد مرض السرطان ينخُزها الضعف، تُكابر على جرحها، تهمس في المرآة أنا الأجمل، تعيد تكرار اللحن أنا الأجمل تتحسس رأسها لا أرض في يبدوا الشعر في يدها غزير ساقط مثل حزن القلب، تنادي ماكينة الحلاقة، تخشاها، لا تستجب الماكنة، تنادي القوة فيها تبكي الأنثى من داخلها، تشعل أغاني الحياة، تُسكِتَ لهيب قلبها، تكابر على الجرح، تسقط جدائلها بين يديها، ترقص للحياة، نراها ونضحك نسأل كيف الريم مثل الغزالِ على جرحها تغزل.
ورأيتها ممسدة الجسد نائمة في غفوتها مثل الحمام الساكن وحولها الزنبقات مشتعلاتٍ لفقدها وصغيرتها قمران تسأل كيف ينام الحمام ويسكتن الأمهات في مواسم أعيادهن ويشرد الغزال. ورأيت نفسي مثل المحمومة أبكي عليها، ألوح بكفي من نافذة العالم الأزرق "مع السلامة يا مسك فايح، مع السلامة يا ريم"، أهرب من صفحة الفيس بوك أحاول ألا أتأثر بشكلٍ كبير لموتها، تقفز الصفحات من حولي، كلها تشيّع ريم، كلها تبكي الغزالة، كلها تساند دموع الناصرة وأجراسها، تستنهض مرج بن عامر تنادي أغنيات الريم له، تعزيه بغياب الشمسِ عن مروجها وتنطفئ في البلاد الضحكات.
لماذا بكينا ريم؟ يقفز السؤال من حولي، لماذا بكينا ريم وصرت أسأل لماذا بكينا الغزالة هل من صوتها حب أم أن الحب فيها؟ وعرفت أنّنا لم نبكها لأحبالها، وعرفت أننا لم نبكها لوجهها، وعرفت أننا لم نبكها للحنها كلمات درويش والقاسم، ولم نبكها لأنها ابنة شاعرة، ولم نبكها لأنها فلسطينية، ولم نبكها لأنها من الناصرة، ولم نبكها لأنها امرأة العام، ولم نبكها لأنها الفنانة.
بكينا ريم لأنها دافئة، أزور حسابها على الفيس بوك وحساب صورها على موقع الانستجرام تضحكني فناجين قهوتها وركوتها النحاسية وشعلة النار، تضحكني قوتها حين تغرقنا بها وهي تخسر آخر جدلة في رأسها والفحم الكحلي في عينها وعناقيد الورد على صدرها تتزين بالحياة. بكينا ريم لأنها في عز جرعات علاجها والجلسات الكيميائية كانت تبتسم في وجه الغول، تعود من جلستها في المشفى لجلستها في زاويةِ دارها تغزل بالخيوط أمنيات الحياة ولا تمل، تذهب للسوق وصغارها، تطل على أصدقائها في العالم الأزرق تضحكهم وهي تبكي، تبكينا بقوتها، بكينا ريم لأنها أبكت ضعفنا وأضحكت صدرنا مثل لوز البلاد. بكينا ريم لأنها قتلت المرض في نساءٍ كثيرات، أغرت اليائسات البائسات الحزينات المريضات ضحكت عليهن بجمال الحياة، بعمرها الخمسين الذي لم نره في تجاعيد وجهها أوهمتنا بالجمال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.