في مجال مختلف تماما ولكن له علاقة أيضا بالعمل العام أو المشاهير، قام في كندا، رئيس حزب التقدميين المحافظين بالاستقالة من منصبه مُؤخّرا إثر تقرير من قناة تلفزيونية كندية محليّة اتهمته فيها بالتحرش قبل سنوات بفتاتين إحداهما كانت قاصرا في وقتها. ثم تراجع الأخير بعد أسبوعين عن قرار استقالته وخرج مهددا بمقاضاة القناة التليفزيونية وأن الاتهامات كلها باطلة. هل هي باطلة؟ هل استغلّ بعض النساء الظاهرة، التي أُطلق عليها إعلاميّا حملة " أنا أيضا" في تحقيق بعض الأرباح الشخصيّة؟ ربما وربما لا.. كل هذا لا يهم. الجميع متّفق أن التحرّش جريمة عُظمى ولن نناقش هنا إن كان بعض المُتّهمين ضحايا اتهامات كاذبة. لكن هناك سؤالا ظريفا قد يسأله أحدهم: كل الحالات التي سمعنا عنها لرجال تحرّشوا بالنساء، ماذا عن النساء التي تتحرّش بالرجال؟ هنا يُعطيك المُعلّقون في وسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام الأجوبة التالية عادة:
– يخجل الرجل من ذكر أنه قد تمّ التحرّش به من امرأة وأن هذا يُخالف الشخصيّة القوية التي يُحب الرجل الظهور بها وقد لا يُصدّقه أحد، خصوصا إن لم يحمل ملامح جورج كلوني!
– كما أن النساء أخذن وقتا طويلا ليجمعوا شجاعتهم في الخروج علنا وتقديم الشكاوي بأسماءهم و صفاتهم واتّهام أشخاص بعينها، سيحتاج الرجال بعض الوقت قبل أن يفعلوا شيئا شبيها.
– أن التحرّش من قِبل المرأة للرجل ظاهرة غير موجودة، والعكس فقط موجود، فالجميع يعلم أن الرجال حقيرون وقليلي الأدب، أمّا النساء فلا يُفكّرون في الرجل بهذه الطريقة المسمومة!
الانغلاق في مجتمعاتنا العربية والإسلامية هو السبب الرئيسي في ظاهرة التحرش، إنه الضغط الذي يولد الانفجار |
لكن ماذا يهمّنا نحن كرجال ونساء من أصول عربيّة أو إسلامية كل هذا؟ هل لدينا ذات الظواهر في دوائر الفن والعمل العام، ذلك التحرّش البشع أو الاستغلال الجنسي الحقير؟ وإن كان، هل يهم ذلك الإنسانة العاديّة التي تعمل في مجال ليس له علاقة بما سبق؟ لنضع هؤلاء المشهورين والمشهورات جانبا، هل يستطيع أحد إنكار أن لدينا ظاهرة تحرّش عامة ومنتشرة جدا في الوطن العربي؟
كشاب قضى أكثر من نصف حياته ومازال في كندا، لطالما أرقتني الأخبار والتقارير التي تتناول قضايا التحرّش في الوطن العربي خصوصا حين زادت عن حدها أو على الأقل زاد تناولها إعلاميا خصوصا وقد أصبحت مناسبات من المفترض أن تكون دينية، كالأعياد أياما عالمية للتحرش في الوطن العربي وخصوصا في البلدان الضعيفة اقتصاديا أو التي يُطبّق فيها القانون على قليل الحيلة فقط. وطبعا لا ننسى الواقعة اللطيفة –المؤسفة – التي تحرشت بها الجموع – كنشاط جماعي يُقوّي روح الفريق واللحمة (بفتح الحاء!) الوطنية في المجتمع- بفتاة مسكينة في حفل تنصيب الأخ السيسي حينها رئيسا لمصر. ولم يكن التحرش بحد ذاته مذهلا لكن المذهل هو سرعة بديهة أحد المذيعات التي تنقل الأحداث مباشرة حين قالت بعفوية تقتل "كارير" صاحبها – وقد قتلته بالفعل- " الشعب مبسوط بقى! ها ها " … طبعا الكثير "ها ها" عليها بالشتائم بعدها، لكن هذه قصة أخرى.
قالت لي فتاة عربية يوما أنها تشعر بالراحة أكثر في كندا وأنها حين تمشي في الشارع لا تشعر بمئات العيون تراقبها وبالتأكيد لا يلاحقها جمع "بالتصفير" إعجابا أو بإطلاق العبارات الغزلية الصريحة من نوع " ما هذه الطعجة يا نعجة ! ".. حاولت تجاهل الحبة الكبيرة التي علت رأس أنفها والتي قد تكون سبب عفاف ألسن الكنديين مؤخرا عن التحرش بها.. أقصد.. حسنا.. سوف أكون "محترما" أكثر وأقول: معها حق.. الشعب الكندي قد رأى "الخير" أصنافا في تنانير قصيرة وشعور شقراء ناعمة وكرة طائرة شاطئية "بكينية" لا "بوركينية" طوال حياته ولن يشغل نفسه المحترمة بالتحرش!.. كما أن العلاقات الجنسية المفتوحة في هذه البلد سهلة جدا. حتى إن كان الإنسان "طبلا!" و لا يجيد الحديث مع النساء فدور المُحرّمات المُقنّنة تملأ البلد.. إذا هو الانغلاق في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هو السبب. الضغط الذي يُولّد على الانفجار.. أو ربما هو ارتفاع سن الزواج بسبب الأصنام الاجتماعية المتعددة؟ّ!
كنت قد التحقت بعمل جديد من فترة قريبة وكما هي عادتي كنت أضع سماعات على أذني تساعدني على التركيز وفجأة شعرت بيد مديري الشائب -الكندي الأبيض- تهز كتفي بشدة قائلا بصرامة: المطبخ.. الآن!

نظرت حولي حينها وتأكدت أني ما زلت في مكتبي في كندا!.. هذا الحديث لم أتوقع أن أسمعه هنا! هذا الحرمان غريب! و المشكلة أن ثلاثة زملاء آخرين -من البيض الكنديين أيضا- وافقوه الرأي بذاءة و حركات!
الموضوع جعلني أفكر أكثر في فكرة "البصبصة" التي يجيدها الرجل العربي جدا والتحرش اللفظي المنتشر في مجتمعاتنا العربية. هل لو كانت دولنا العربية أفضل حالا اقتصاديا وكان الزواج سهلا وحتى كانت المحرمات موجودة هل كانت قد انتهت المشكلة؟.. بعد هذه الحادثة، بدأت الانتباه أكثر لتصرفات الرجال في الشارع في كندا، لم يخيب ظني إلى الآن رجلا واحدا في اختبار "البصبصة" الرسمي والذي يتلخص في التالي: إن مرقت بجانبك فتاة جميلة هل ستستدير لتقلي نظرة على -لامؤاخذة- مؤخرتها حينما تتخطاك؟… وللأسف الكل نجح في الاختبار وفعل و سُجّل في العالمين "بصباصا"!
إذا ما المشكلة؟.. بخلاف الظواهر الكبرى والمنتشرة من اغتصابات وتحرشات في أوقات متأخرة من الليل أو في استثناءات القاعدة، لا تشعر الفتاة في كندا بأنها حبة قطائف تاكلها أعين الرجال في الشارع.. قد أكون مخطئا لكني حصرت التعليل في ثلاثة أمور:
– نعم العلاقات الجنسية هنا أسهل، وبالطبع إن كان الزواج الحلال أسهل في بلادنا لخفت عمليات التحرش لكن ليس البصبصة بالضرورة.
– المجتمع الكندي عموما "مكبر دماغه" ونادرا ما يلفت انتباهه لباس هذه أو تلك وإن كان غريبا أو مبهرجا. هو شعب في العموم متقبل للآخر وإن لم يكن متقبلا فهو لا يظهر عدم تقبله خوفا من أن يؤذي مشاعرك.
– النقطة الأخيرة والأكثر أهمية برأيي وهي أن القانون هنا صارم. و يمشي على الجميع من الوزير للحقير. وهو قانون مطبق ليس حبرا على ورق والكل يخشاه. وهذا نفتقده في معظم بلداننا العربية.
النقاط الثلاثة الأخيرة ربما الخلاصة العلمية أو الفلسفية للموضوع أما الخلاصة الاجتماعية التي خرجت بها من قصة مديري والشقراء أن المطبخ مكان مهم جدا في العمل ويجب أن نُكثر من شرب القهوة في العمل، خصوصا الساعة التاسعة صباحا حيث اعتادت "حسنة الذِكر" إعداد فنجان قهوتها مع الحليب الخالي من الدسم!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.