كنت دائما ما أسمع محبي ميريل ستريب يتحدثون عنها بجنون، وهذا كان أول سبب دفعني لعدم متابعة أعمالها، لأني عادة لا أنجذب للشيء الذي يلتف حوله الجميع ويتحدثون عنه بكثرة، وربما كان هذا سبب تأخري في متابعة مسلسل "لعبة العروش" أيضا بسبب الضجة التي تحيط به، ولكن في نفس الوقت لم أكره ميريل ولكني لم أرَ من بعيد السبب الذي يؤهلها لتلك المكانة الجماهيرية والأكاديمية بحصولها على أكثر من جائزة أوسكار.
ثم جاءت البداية الأولى عندما شاهدت فيلم "The Hour" والذي دارت أحداثه حول قصة حياة الكاتبة البريطانية فيرجينا وولف، مع تتابع أحداث زمنية مختلفة عن سيدات أخريات يمررن بتجارب نفسية قاسية، وكانت ميريل إحداهن، ومنذ مشاهدتي لدورها في هذا الفيلم أدركت أنها بالفعل قد لا تلفت نظرك من بعيد وأنت تشاهد مشهدا من فيلم لم تكمله، أو حتى صورها الإعلامية والتي تظهر فيها كسيدة تقليدية للغاية، ولكن عندما تشاهد فيلما كاملا لها؛ تدرك أن هناك شيئا في عمق تلك الممثلة يمهد لنفسه الطريق بهدوء على مدار أحداث الفيلم حتى يتفجر في لحظة واحدة، وفي مشهد واحد يلمسك حتى النخاع.
جسدت ميريل ستريب ما تواجهه كل امرأة ليس فقط في القرارات الحاسمة، بل في حياتها اليومية العادية، حيث تتحمل مسؤوليات أكبر من قدرتها على التحمل، ولكنها تصمد رغم ضعفها |
ولكن بعد مشاهدتي لفيلم "The Post" والذي عُرض مؤخرا على شاشات دور العرض السينمائي في جميع أنحاء العالم؛ أدركت أنني وقعت في غرام تلك المرأة وأني قد انضممت لقطيع محبيها، فهي وتوم هانكس الذي يشاركها البطولة عزفا مقطوعة سينمائية رائعة من التمثيل الهادئ المحترف، والذي لا يحتاج لجلبة كبيرة حتى يثبت نفسه، مباراة بين عملاقين بالفعل، ولكنها مباراة هادئة كمباراة شطرنج أكثر من كونها مباراة ملاكمة، لعب هادئ، كل خطوة صغيرة محسوبة، كل حركة جسد ونظرة عين محسوبة بدقة.
ستيفن سبيلبرج مخرج الفيلم منح ميريل ثلاثة مشاهد؛ هي المشاهد التي جعلتني أقع في حبها فورا، في البداية عندما كانت تحاول إنقاذ جريدتها "واشنطن بوست" من الإفلاس، وحضرت اجتماعا قد تحضرت له جيدا ولكنها كانت المرأة الوحيدة في هذا الاجتماع، وقد جسدت ميريل في هذا المشهد وضع المرأة بشكل عام بالولايات المتحدة في السبعينيات؛ فقد تمتلك كل المؤهلات التي تجعلها جديرة بحضور هذا الاجتماع، ولكنها تحتاج الشجاعة لإثبات ذلك، وفي هذا المشهد جعلتنا ميريل جميعا نظن أنها امرأة ضعيفة.
في المشهد الثاني والذي كان مفاجأة لكل متفرج لم يكن يعلم قصة الفيلم؛ حين اتخذت قرارا لا يستطيع رجل أن يتخذه، قرارا حاسما في مفترق وقت تاريخي، قرارا قد ينتج عنه هدم أسرتها وعملها وإرث عائلتها، وفي نفس الوقت الطريقة التي قالت بها هذا القرار القوي؛ لم يكن قويا، ولم تختر ميريل أن تظهر الشخصية وكأنها محاربة لا تخشى شيئا، بل هي امرأة ضعيفة تتخذ قرارا قويا، ومن هنا جاءت عبقرية هذا المشهد لكونه واقعيا، لأن هذا ما تواجهه كل امرأة ليس فقط في القرارات الحاسمة، بل في حياتها اليومية العادية؛ تتحمل مسؤوليات أكبر من قدرتها على التحمل، ولكنها تصمد رغم ضعفها.
المشهد الثالث والذي استطاع المخرج أن يضافره مع باقي المشاهد ليلقي الضوء بهدوء وخفة على دور المرأة الهامشي بذاك الوقت في الولايات المتحدة، هي اللحظة التي انتصرت فيها تلك المرأة رغم اتخاذها هذا القرار المتهور، وعند خروجها من إحدى قاعات المحكمة وهي تشعر بالنصر، وقتها لاحظت صف النساء اللاتي ينظرن لها بانبهار وفخر وكأنهم يحاولن مد أيديهن للوصول إلى مكانتها.
في هذا المشهد، وبهدوء شديد، جسدت ميريل إحساس تلك المرأة بالسعادة العارمة الممزوج بخجل امرأة بسيطة لم تتوقع أن قرارها المتهور سيصل بها إلى تلك المكانة القيمة، وللحظة شعرت أن ميريل ترى نفسها في تلك المرأة، فهي امرأة تقليدية وربة أسرة ولديها ثلاث فتيات جميلات، وعندما تظهر في أي لقاء إعلامي تكون بسيطة في حديثها وملابسها المحتشمة على عكس نجمات هوليوود، فميريل يمكن أن تكون قدوة حتى في حياتها الشخصية للمرأة العاملة الناجحة التي لم تتخل عن حلم تكوين الأسرة والاستقرار.
وبمجرد أن انتهى الفيلم أدركت أن حبي المتطرف لميريل قد بدأ منذ هذا اليوم، واتخذت قرار استكشاف كل أفلامها، وأنا سعيدة أنني لم أشاهدها من قبل، لأني أعلم بالتأكيد أن هناك كما رائعا من متعة المشاهدة في انتظاري.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.