أعتقد أن الناس اليوم يُقِرّون بأهمية وأصالة الفلسفة في العالم الإسلامي، ربما أكون متفائلاً في اعتقادي؛ لكن لا أظن أن هناك عالم اليوم سيقول ما قاله بيرتراند راسل في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية" -الذي كُتِب عام 1945- بأن: "الفلسفة العربية ليست مهمة كفكرة أصلية. الرجال أمثال ابن سينا وابن رشد هم بصورةٍ أساسية مُعلِّقين". حتى لو اتضحت رؤيتنا اليوم لفلاسفة العالم الإسلامي، فما زال هنالك نقاط عمياء. إن المفكّرين الذين يتم أخذهم على محمل الجد باعتبارهم "فلاسفة" هم عادة المؤلفون الذين رفضهم راسل ووصفهم بمجرد مُعلِّقين، بما فيهم الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. في حين أنهم اتّسموا بالأصالة وكانوا بعيدين كل البعد عن التقليد، إلا أنهم كانوا متعلقين بأرسطو وغيره من المؤلفين اليونانيين. إضافة لذلك، لم يكن هؤلاء الفلاسفة هم المفكرون والعقلانيون الوحيدون في زمنهم كما لم تمُت العقلانية -التي تُطلق على أي فكر يحتكم إلى الاستنتاج أو المنطق كمصدر للمعرفة أو للتفسير- والفلسفية مع ابن رشد في نهاية القرن الثاني عشر كما لا زال يُعتقَد.
على مر التاريخ الإسلامي، لم تكن العديد من الشخصيات ذات الأهمية والمتعلقة بمؤرخ الفلسفة أرسطو، بل كانت من ممارسي "علم الكلام" الذي عادة ما يُترجم إلى "اللاهوت". فعلم الكلام الذي يُعرَف أيضاً باسم علم التوحيد، وعلم أصول الدين، وعلم الفقه الأكبر، وعلم الإيمان، وعلم الأسماء والصفات، وعلم أصول السنة، هو أحد أبرز العلوم الإسلامية الذي يهتم بمبحث العقائد الإسلامية وإثبات صحتها والدفاع عنها بالأدلة العقلية والنقلية؛ وهو علم يعنى بمعرفة الله تعالى والإيمان به، ومعرفة ما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز، وسائر ما هو من أركان الإيمان الستة ويلحق بها. أما علم اللاهوت يبحث في العقائد المتعلّقة بالله تعالى، كوجوده وذاته وصفاته والإيمان بالنُّصوص المقدَّسة وسلطان الكنيسة، ويقوم عند المسيحيّين مقام علم الكلام عند المسلمين.
غالباً ما يتم مقارنة علم الكلام بمصطلح الفلسفة، وتعود جذور كلمة "فلسفة" إلى اللغة اليونانية philosophia وتعني حب الحكمة. عندما يستخلص علماء العصر الحديث هذا التباين بين علم الكلام والفلسفة يفترضون أن علم الكلام غير فلسفي أو حتى معادي للفلسفة، فهم يسترشدون بتقاليد العصور الوسطى نفسها؛ وتحديداً لعالِمَين قد اعتبرا نفسيهما فلاسفةً وهما الفارابي وابن رشد. فيرى علماء العصر الحديث أن علماء الدين المسلمين "المتكلمين" -وهم المختصون بعلم الكلام- قد شاركوا بمجرد حجج جدلية، بينما قدّم الفلاسفة البراهين. لا يبني عالم الدين حجته على المبادئ الأولى -وهي أي اقتراح أو افتراض أساسي وتأسيسي وبديهي لا يمكن استخلاصه من أي اقتراح أو افتراض آخر- لكنه يدافع فقط عن تفسيره المفضل للكتاب المقدس ضد التفسيرات المنافسة. ازدرى ابن رشد النتائج وكان يشكو من أنها يمكن أن تؤدي إلى انشقاقٍ عنيف؛ فكان يرى أن فيلسوفاً فقط بإمكانه أن يقدّم قراءة موثوقة حقاً للقرآن، لأن الفيلسوف يعرف ما هو صحيح بناء على أسسٍ مستقلةٍ وهي أسس علوم أرسطو.
يشتهر الغزالي بانتقاده لميتافيزيقية ابن سينا (والميتافيزيقية التي تعرف ب "ما وراء الطبيعة" هي شُعبة من الفلسفة تبحث في ماهيّة الأشياء وعلّة العلل أي القوة المحرِّكة لهذا العالم)، لكنه سخر أيضاً من أي شخص ينكر فائدة منطق الفلاسفة |
لكن هل ينبغي لنا قبول هذه المعارضة الحادة؟ هؤلاء الأرسطيون -وهم مُتّبعو فلسفة أرسطو- يتحدثون كما لو أن علم الكلام لا يستخدم المنطق بشكل كاف؛ في حين أن معظم المعاصرين قد رأوا أنها مثيرة للجدل لأنها كانت عقلانية للغاية. غالباً ما انطلق علماء الدين من المعنى السطحي لتفسير القرآن على أسس عقلانية؛ فمثلاً قد يبدو حديث الوحي عن الله وكأن الله يمتلك جسداً ولكن يمكننا استبعاد ذلك من خلال تقديم حججٍ ضد هذا التجسيد. إضافةً لذلك، شارك المتكلمون في نقاشات تفصيلية حول قضايا فلسفية مركزية بما في ذلك "حرية الإرادة" -وهي اعتقاد فلسفي تدعمه في الكثير من الأحيان مدارس فلسفية ودينية متنوعة يقول بأن سلوك الإنسان وتصرفاته تنبع من إرادته الحرة بالكامل- و"المذهب الذرّي" -وهو فكرة فلسفية يعتقد وفقها الذرّيون أن العناصر الأساسية للحقيقة تتشكّل من الذرة غير القابلة للانقسام والإتلاف وهي مادة سابحة في الفضاء- ومصادر "المسؤولية الأخلاقية".
كما وناقشوا تقنياتٍ مثل توارث الخصائص في المواد ضمن "الحركة الجوهرية" -وهي الحركة المنسوبة إلى الجوهر بخلاف نسبته إلى العرض‘ وهو الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع أي محل يقوم به كاللون المحتاج في وجوده إلى جسم يحله ويقوم به والأعراض نوعين: قار الذات وهو الذي يجتمع أجزاؤه في الوجود كالبياض والسواد، وغير قار الذات وهو الذي لا يجتمع أجزاؤه في الوجود كالحركة والسكون- أو حالة الكائنات غير الموجودة. لو سار التاريخ على نحو مختلف ولم يكن هناك أرسطيون متشددون يكتبون باللغة العربية، فلا شك لدي في أن مؤرخي الفلسفة سيعتبرون أن إنتاج "المتكلمين" هو التقليد "الفلسفي" للعالم الإسلامي.
من شأن ذلك أن يجعل منهجنا للتاريخ الفكري الإسلامي أشبه بمعاملتنا للفكر المسيحي في القرون الوسطى؛ فبعد كل شيء، كانت فصول الفلسفة في العصور الوسطى مكرسة في الغالب لشخصيات تعتبر نفسها "لاهوتية" مثل أسقف كانتربري أنسلم، والراهب توما الأكويني، ودانز سكوطس، والأخوي وليم الأوكامي. بالطبع، هناك الكثير من الناس الذين لا يحبون فلسفة العصور الوسطى وذلك بسبب سياقها الديني بالتحديد. لكن من وجهة نظري، أرى أن الفلسفة هي حيث تجدها، وأنه من ضيق الأفق تجاهل الجدلية الفلسفية التي طرحها المفكرون ببساطة لأن لديهم أجندة دينية، سواء كانت تلك الأجندة تنبع من المسيحية (كما هو الحال مع الأكويني)، واليهودية (كما هو الحال مع موسى بن ميمون)، الهندوسية (كما هو الحال مع نظرية المعرفة أو فلسفة فيدانتي للعقل)، أو الإسلام.
إن رفض تقدير الفائدة الفلسفية للكلاميين أمرٌ ضارٌ وخاصةً عندما يتعلق الأمر بالفترة التالية لابن سينا الذي توفي عام 1037، والذي يُعتبر شخصية محورية للفلسفة في العالم الإسلامي. كان تأثيره هائلاً وواسعاً، لذلك نجد علماء الدين مثل الغزالي (توفي عام 1111) وفخر الدين الرازي (توفي عام 1210) يشاركون في تحليلات دقيقة لحجج ابن سينا، حيث وافقوا على بعض جوانب نظامه واكتشفوا أخطاءً في جوانب أخرى.
يشتهر الغزالي بانتقاده لميتافيزيقية ابن سينا (والميتافيزيقية التي تعرف بـ "ما وراء الطبيعة" هي شُعبة من الفلسفة تبحث في ماهيّة الأشياء وعلّة العلل أي القوة المحرِّكة لهذا العالم)، لكنه سخر أيضاً من أي شخص ينكر فائدة منطق الفلاسفة. أما بالنسبة إلى الرازي، فإن مؤلفاته اللاهوتية (الدينية) الهائلة يمكن مقارنتها بتلك التي كتبها رجال مثل الأكويني وسكوطس في اللاتينية المسيحية المليئة بالحجج المدرسية وحتى من حيث العناصر الفلسفية مثل تصنيفات أرسطو. إن أسطورة أن الفلسفة ماتت بطريقة ما في العالم الإسلامي في وقت ابن رشد (توفي عام 1198) وحدث ذلك بشكل جزئي نتيجة افتراض أن هذه النصوص تقع خارج نطاق تاريخ الفلسفة، على الرغم من كونها مليئة بالحجج الفلسفية المعقدة.
كل ذلك لا ينفي أن بعض نصوص علم الكلام الأخرى ستكون ذات أهمية محدودة للقارئ ذو العقل الفلسفي أو أن المتكلمين قد عملوا عادة على أساس التفسير الكتابي بدلاً من -أو بالإضافة إلى- الاستناد إلى حجة عقلانية نقية في الأساس؛ ولا يعني أن السبب الوحيد في أن في أن نصوص علم الكلام يمكن أن تكون محبطة للفيلسوف. كان الفارابي وابن رشد مُحقّين في وجود اتجاه "جدلي ومنطقي" في معاصريهما علماء الدين. قد لا يتم تفحّص المقدمات المنطقية لأن المعارض المرتقب لا بد أن يقبلها، وهناك ميل -في بدايات علم الكلام خاصة- للإجابة عن الأسئلة بصيغ شفوية قد تقبلها جميع الأطراف، بدلاً من الخوض بشكل أعمق للعثور على إجابة مرضية ومباشرة للغاية. لكن هذا الميل تقلّص إلى حد ما في أدب علم الكلام اللاحق؛ في الواقع، إن انطباعي – الذي أقدمه مبدئياً بالنظر إلى الكم الهائل من أدب علم الكلام اللاحق الذي لم يتم تحريره ولم يخضع للدراسة بعد- هو أن علم الكلام أصبح أكثر "فلسفية" بقدر ما تطور التقليد. في فترة ما بعد عصر ابن سينا، كان الوضع يشبه بشكل متزايد ما وجدناه في فرنسا في أواخر القرن الثالث عشر: كان الفلاسفة الأكثر تمرساً وإثارة للاهتمام هم اللاهوتيون (علماء الدين).
قد يبدو من الجشع أن أطلب من جمهور القرّاء الواسع أن يقدّروا علم الكلام، بينما نادراً ما نجد اليوم شخصاً غير متخصص في الفلسفة الإسلامية يدرس الفلاسفة (الذين يصفون أنفسهم بذلك) في العالم الإسلامي. لا يبدو الأمر كما لو أن طلاب البكالوريوس يُطلب منهم بشكل روتيني قراءة "ابن سينا" و"ابن رشد" ناهيك عن معاصريهم اللاهوتيون واللاحقون بهم. ولكن حتى لو بقيت النصوص ذات الصلة غير مدروسة إلى حد كبير، يجدر نشر الأخبار التي تفيد بأن العقلانية في الإسلام لم تمُت بموت ابن رشد، وأن أنصار الفلسفة المشهورين في العالم الإسلامي مثل الفارابي وابن رشد وابن سينا لا يملكون احتكاراً على الفكر الفلسفي في ذاك الوقت.
————————————————————————-
مترجم عن (أيون)
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.