يدخل إلى أحد المطاعم الشعبية في شوارع القاهرة، يطلب طبقًا من الكشري، وقبل أن يدرك ما يحدث له؛ تتحول جدران المطعم ورجاله إلى أحد مكاتب الاستخبارات الخيالية، في عالم خيالي، ولأغراض أكثر خيالية وعبثًا من وجهة نظر البعض، ولكن البعض الآخر، مثلي، يجدها مفهومة جدًا وتعبر عما داخله من معاناة مبذولة من أجل تحقيق الذات، التي لم نكتشفها بعض، ما يجعل طريق الحلم مليئا بالعقبات والإخفاقات أيضًا، ولكنْ في لحظات التجلي النفسي والحكمة الداخلية قد يدرك البعض أن المتعة في رحلة اكتشاف الذات وليس في تحقيق حلم معين من أجل اشباع تلك الذات".
رواية "سيرة سيد الباشا" للكاتب أحمد الفخراني -الحاصل على جائزة ساويرس- من الأعمال الأدبية المصرية القليلة، التي تتناول بعض الأفكار التي تراود الإنسان الذي يطمح إلى تحقيق إنجازات تتذكره بها البشرية؛ في إطار من الأحداث السيريالية الممزوجة بالواقع المعاصرالذي نعيشه، وبتعبيرات واإحاءات رمزية، وكأنها لغة بعينها لا يفهمها إلا الطموحون أوالمشاؤون كما وصفهم الفخراني بين طيات الرواية.
من منا ليست لديه أمثلة بشرية من التاريخ أو الماضي القريب يريد أن يمشي على خطاهم أو ينجح نجاحهم ويحظى بحب العامة مثلهم؟ ولكن قليل منا من لديهم نعمة الخيال الخصب، الذي يمنحهم متعة الحديث مع تلك الأمثلة البشرية وخلق عالم كامل خيالي يجمعهم بهؤلاء الذين أمتعوا البشرية، مثل والت ديزني.
أحمد الفخراني ليست لديه تلك الحواجز الزمنية أو المكانية، هو ببساطة أحب أشخاصًا وعاش معهم في خياله، ومنحنا لمحة من هذا الواقع الافتراضي الذي يعيش فيه من خلال صفحات روايته سيرة سيد الباشا، ولكن في الوقت نفسه لم ينفصل -الفخراني- عن الواقع بأعبائه وتجاربه القاسية، والتي قد تكون مبررًا قويًا لخلق هذا العالم الخيالي الممتع من وجهة نظري، والذي منحه قدرة كافية على مواجهة الحياة المرهقة كالسباق على نفس بطل الرواية ونفس كاتبها ايضًا.
الكاتب المصري أحمد الفخراني من كتاب الأدب الناجحين الذين يعملون في صمت، حصلت إحدى رواياته على جائزة ساويرس، بينما رُشحت مجموعة قصصية آخرى للجائزة نفسها، وكانت ضمن القائمة القصيرة. وبجانب هذا النجاح الأدبي الذي يقابله فخراني على استحياء، فهو يتمتع بموهبة أخرى كان لي حظ أن أشاركه إياها لمدة عام، وهي موهبة خلق محتوى صحافي مميز وتثقيفي وفي الوقت نفسه مقدم بطرق سلسة ومسلية وتمتع القارئ.
يجب ألا ننسى هذا الشخص الذي يسكن بداخلنا، والذي يريد أن يتحرر من ساعات ومواعيد العمل القاسية، هذا الشخص الذي يملك موهبة تميزه عن الآخرين، ولكنه مقيد بسباق "لقمة العيش" |
العمل كصحافية مع الكاتب الصحافي أحمد الفخراني كان قبل أن أقرأ أيا من كتاباته الأدبية، ولذلك ظننت أن المنحة الجلية التي منحها الله إياها هي القدرة الفطرية على إدارة مجموعة كبيرة من الكُتاب الصحافيين الشباب دون أن يُشعرهم بأنه رئيس عمل.. بجانب نظرته الثاقبة في إدراك مكمن قوة كل صحافي يعمل معه، حتى وإن لم يدرك هذا الصحافي أنه يمتلك تلك الموهبة أو قادر على تحقيق هذا النجاح. ونجح الفخراني لمدة تقرب من عام في أن يوجه كلا منا إلى موطن قوته، وهذا من خلال إدارة تعتمد على الحب بين فريق الكتابة والخيال -من جانب فخراني- في توظيف قدراتهم الإبداعية ولفت نظرهم إليها.
ولذلك حين قررت أن اقرأ لأول مرة عملا أدبيا له، في البداية -للمصداقية- لم أكن أتوقع عملا أدبيا على درجة كبيرة من التميز، لأني ظننت أن موهبة فخراني وقدراته تكمن في ابتكار المحتوي الصحافي المميز، ولذلك حين بدأت في قراءة الرواية كانت مفاجأة بالنسبة إلي أن ارى هذا الجانب المميز والممتع والصادق من مدير عملي السابق، وكأنني أكشف النقاب عن موهبة أكبر كانت تتوارى خلف موهبة الكتابة الصحافية.
إلى حين مر الفخراني بتجربة قد تكون مريرة بعض الشيء، ولكنها دفعته إلى ذراعي الورق، ليخرج سيرة سيد الباشا، والتي تعدّ -بالنسبة إلي- رحلة رائعة في عالم الخيال، ودفعة قوية ذكرتني بحبي الأصلي وهو الكتابة الأدبية، والتي شجعتني بمجرد أن انتهيت من قراءتها على أن أنشر روايتي المخزَّنة على حاسبي الآلي، وهذا حين تذكرت أن ما جعل الفخراني ينجح بالحب والخيال هو أنه في الأصل كاتبٌ وليس صحافيًا، وكان علي أن أمشيء وراء المشاء الصديق.
ما تعملته من قراءة تلك الرواية هو ألا ننسى هذا الشخص الذي يسكن بداخلنا، والذي يريد أن يتحرر من ساعات ومواعيد العمل القاسية، هذا الشخص الذي يملك موهبة تميزه عن الآخرين، ولكنه مقيد بسباق "لقمة العيش" وتحقيق دخل مالي يسعد أسرته؛ إنه موجود بداخل نفسي، ونفسك، ونفسنا جميعًا، لا تقتل هذا الشخص، أعطه متنفسا ولو قليلًا، اعزف الآلة التي هجرتها سنين، أمسك ريشة الألوان التي جفت أطرافها وأخرج لوحة جديدة للحياة، تناول القلم الذي أمامك واكتب بيت شعر بعد أعوامٍ من الغياب، أطلق عنان هذا الشخص، ودعه يكتب سيرته الخاصة بالحب والخيال أيضًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.