شعار قسم مدونات

مغربية في الأندلس.. وصْل الحلم

مدونات - الأندلس

منذ الطفولة، كانت الرحلة إلى غرناطة حلما غاليا. بدأت روحيا منذ درس التاريخ الأول عن حكم الدولتين المغربيتين المرابطية (من سنة 496هـ/1103م) والموحدية (545هـ/1150م) للأندلس، وحينذاك كنا نسمع الدرس في الفصل بينما ترسم خيالاتنا وجوها لأجدادنا، وتشق معهم البحر باتجاه العدْوة الأخرى. (العدْوتان هما المغرب والأندلس، ويطلق عليهما الاسم لقربهما ووجودهما على شواطئ تفصل بينهما).

 

وعندما كبرت وصرت قادرة على السفر، حققت حلمي، لكنْ لأنني أحمل سنينَ من تمني دخول أرض الأندلس الشقيقة، بما تعنيه الكلمة من اتصال الجذور والدماء والأفئدة، ولأنني أمتلئ بقصص بلاد الجنان العزيزة وأشعارها، توجه إليها كلّي كما يولّي عابد وجهه في اتجاه قبلة، ودخلتها بثوبي المغربي التقليدي، يرشح منه سلام ومحبة أرض المغرب، بشوق نضج لسنين طوال فتهاوى على أعتاب غرناطة.. المدينة التي تجمع حولها القلب أكثر من غيرها في الأندلس.

 

الطريق إلى غرناطة كان أليفا، حتى لتكاد تقسم إن هذه الأرض جزء من شمال المغرب، وإن بساتين الزيتون المترامية على جانبيها من مدينة مكناس عاصمة الإسماعيليين.

جــادك الغيــث إِذا الغيـث همـى ** يــا زمــان الــوصل بــالأَندلسِ 
لـــم يكــن وصْلُــك إِلاّ حُلُمًــا ** فــي الكــرى أَو خُلسـة المخـتَلِسِ 

  

كان هذا حالي على لسان ابن الخطيب، شاعر غرناطة، الذي عشقها في قوة وهدوء لم تكن لتزعجهما مزاحمة تلميذه وشاعر الحمراء ابن زمرك، وقد انضاف إليهما شاعر ثالث هو ابن جياب، قصائدهم، بالإضافة إلى شعراء آخرين، معروفين ومجهولين، نقشت بين ثلاث وثلاثين قصيدة على المرمر المصيص الخالص وعلى الخشب الصلب في قصر الحمراء.

  undefined

 
ولدخول قصر الحمراء، كان علي أن أرابط ليلتين في برد قارس، منذ الساعة الثالثة صباحا، لأنني لم أكن قد حجزت مسبقا على الإنترنيت كمئات آخرين غيري، انتظرت معهم الليلة الأولى دون أن نفلح في دخول القصر، وننجح بذلك بعد انتظار ساعات أخرى في اليوم الموالي.

 

كانت الثامنة صباحا، توقيت فيه ضباب وغبش، كذلك الذي يلف الخيالات المشتهاة قبل أن تكشف حسنها. رميت، كوارثةٍِ أصيلة لمعتقد أن اليمين خير، رجلي اليمين إلى بوابة القصر، وألقيت السلام على المكان ولم أنقصه من ذكر الرحمة والبركة، وكانت الابتسامة تطرق القلب بينما تتسع على الشفتين: إنني هنا في زهرة عمارة الأندلس، وسرعان ما تنكمش إذ أذكر أنها ملك الأهل وأبناء العمومة والجوار الضائع.. 526 سنة ولم يشف هذا الجرح، يبرد حرّه قليلا عندما ترى عناية الإسبان بعدد من المآثر التاريخية الأندلسية، وبينها قصر الحمراء، وقد صنّفه موقع "يونسكو للتراث العالمي" ضمن النوع الثقافي في 1984 ليصبح أهم معلم سياحي إسلامي في الغرب.

 

ويشتد ألمك وأنت تذكر مأساة مسلمي الأندلس الموريسكيين (المسلمون في الخفاء، المتنصرون عنوة في العلن) ويهودها أيضا، بعد أن أخلّ ملكا قشتالة وأراغون إيزابيلا وفرديناند ببنود معاهدة تسليم المدينة التي وقعاها في 897هـ/1491م، مع ملك غرناطة، أبي عبد الله محمد الثاني عشر، وأظن أنها معاهدة حقنت كثيرا من الدماء، وأنها كانت اتفاقية سياسية شجاعة لملك كان يخسر المدينة وقد يخسر أهلها أيضا، ففاوض لأجل أن يكون تسليما لغرناطة، ويحفظ أهلها ودينهم، وهو ما لم يُصن عهده.

 

ويا للحسرة والحزن اللذين يمسكان بخناقك وأنت تقرأ "لا غالب إلا الله" أبدع في نقشها على جدران قصر الحمراء، وتقرأ الأشعار التي تتغنى بحسن البلاد وخصال العباد، وتتفكر في الجمال أمامك يسري مع مجاري حديقة "جنة العريف"، ورصفته العمارة التي استعملت فيها الرياضيات حتى أقيم كل إنش لميزة ما، ويفتح النوافذ بزجاجها الملون على حي البيازين/البياسين فترى غرناطة مسجاة أمامك.. تدق الصدر وتسرع الخفق لفرط بهائها.

  undefined
 
هدهدة لهذا الوقع، قرأت بصوت عال آيات من القرآن الكريم بين جدران قصر الحمراء وفي البيازين، وقرأت أشعارا معظمها لابن زمرك، كنت أقول إن الأرض والجدران لها آذان لا تموت، وهي حزينة لشدة الشوق للغة الأهل الذين مدوا عمارها وزرعوا أشجارها، وكانت لهم حكايات في دروبها، وكانت شاهدة على ما لحق بهم من أذية، وكنت أحس أنها لذلك ترثي بما جاد به الشاعر ابن اللبانة في موقف سابق:

كم سال في الماء من دمع وكم جملت ** تلك القطائع من قطعات أكباد.

 

والأندلس قطعة من أرواح المغاربة، ما بين المغرب والأندلس لا يموت، وسيجعل دائما من أي عبور بين العدوتين خاصا، وهو ما يوثقه أيضا الدستور المغربي حين يقول إن "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الأفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية".

 

هذه الروافد هي تاريخنا المشترك دينيا وسياسيا واقتصاديا وعلميا وفكريا ومعماريا واجتماعيا، وأخوتنا، تلك التي اتصلت بالأندلس أو وسم بها الموريسكيون حواضر مغربية إلى يومنا هذا بطابع أندلسي بديع، والاحتفاء بها احتفاء بالإرث المشترك والإنساني، كما الحزن لأجل مآسيها من إنسانيتنا قبل أن يكون لأجل انتماءاتنا.

 

وهنا لأفتح قوسا يستحق أن يفرد له مقال آخر، عن أن دروس التاريخ تتكرر، إذ لا يختلف الحال سياسيا اليوم عن ما أدى إلى سقوط الأندلس قبل 526 عاما. سابقا، كانت هناك فرقة وحروب ملوك الطوائف في الأندلس، ثم ضعف دولة المرينيين في المغرب وعزلتهم بعد سقوط جبل طارق وقطع الطريق إلى العدوة الأخرى، وظروف أخرى، واليوم مع اختلاف السياقات، هناك شعوب تستعمر وتستباح في فلسطين، وتقتل بكيفية ممنهجة في سوريا واليمن وبنغلاديش وغيرها، وهناك أقليات تباد لأنها أقلية، وهناك شعوب عبر العالم منهكة من ظلم حكامها ومن تحالفات "القوى العظمى" ومصالحها. هذا النظام العالمي ككل يستهدف الإنسان، جميعنا من كل الجغرافيات والانتماءات، وسنجد أن خسارتنا الإنسانية من تتكرر.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان