شعار قسم مدونات

غزلان تطل من الهاوية

blogs غزال

عندما نظرت إلى الهاوية، لم يُخيّل لي أني سأسقط، في قعر الهاوية كانت الهزيمة تناديني، الحزن والشجن والأمل المتكسر، الليل الذي ليس حزينا دائما يقبع هو أيضا منتظرا سقوطي، ليتحول لِليل تستيقظ فيه عيون الحزن وتحملق فيّ وتخيفني.. فستاني المفضل كان هناك لا ليؤنسني، بل كشبح فتاة صغيرة ماتت جوعا وتهشم جسدها ولم تبق إلا الثياب تتخايل على العظم، كذكرى ناتئة.

أشحت النظر عن الهاوية، لا تناسبني على أية حال.. عدت لسريري المفضل الذي تحول فجأة لفراش من الشوك، وعليه كانت العيون والأيدي تمتد.. كانت الأيادي تمتد تنتظر النهوض، تتساءل أين القوة؟ أين الشجاعة؟ فتاتنا التي لم يخلق مثلها في البلاد ستحضر الآن، وعلى الكرسي في طرف الغرفة كنت أجلس أحملق فيّ وفيهم، في الجثة المتجمدة، وفي القلوب الحية التي تشد رداء العطف على المأساة، بين الدموع يشق السؤال طريقه: ماذا تفعل القوة المتوهمة بجثة الضعف المسجى في الطرقات؟

نهضت، لست أنا، ربما الجثة المسجاة على الفراش، أو ربما أنا ثالثة، لم أفهم وضاق صدري فلم أسأل.. فور النهوض تساقطت الخصلات البنية المذهبة على الأرض وتحولت من فورها للبياض الثلجي، غارت العينان وتحولت لكهوف سوداء لا تخفي شيئا؛ إذ إن كل شيء كان مفضوحا، وعلى الرغم من الفضيحة العلنية كان كل شيء سرّيا.. عمي الناس، وعميت عن الناس.. كانت يداي شفافتان، لا تكادان تقبضان على معنى، أو حكمة، أو عمل، أو حتى إنسان، يتسرب منهما كل شيء حتى الأيام، لم أحزن، كان الحزن رفاهية لا أملكها، جزعت هي الكلمة الأنسب.

أن تموت حيا يعني ألا تلامس التجربة بعد الآن، أن تموت حيا يعني أن تهرب كغزال سبق صيده مرات ومرات.. يجتر نفسه لموت هادئ على طرف فراش لين، تحيط به الأيادي الناعمة، والعيون العمياء
أن تموت حيا يعني ألا تلامس التجربة بعد الآن، أن تموت حيا يعني أن تهرب كغزال سبق صيده مرات ومرات.. يجتر نفسه لموت هادئ على طرف فراش لين، تحيط به الأيادي الناعمة، والعيون العمياء
 

كانت العاصفة أكبر من احتمالي، قلبت ثوبي وتكورت، خشيت مما لا أستطيع احتماله، رأيت نفسي وقد تحولت لغزال، كانت النبوءة من الاسم الذي أطلقته الأم يوما "يا غزال".. لم تعرف أن هذا الغزال هرب مثخنا بجراحه، يأنف أن يُرى، طال الهرب حتى استطال به الحزن، عمي الغزال، واصطدم بالذكرى.

الذكرى الغافية، تعصر القلب حتى يسيل من قبضتها، مخلّفا ثقبا أسود، الذكرى الغافية.. من أيقظها؟ الذكرى الهادئة، كانت كموج يروح ويأتي بهدوء يتداخل مع شاطئي بلا عواصف، من أطلقها؟ الذكرى التي نهضت وتوحشت، ما كان لها أن تأتي، ما كان يليق بها إلا أن تدفن في الخرائب، تظل كأسطورة منسية يخيف بها الناس من ضلّ منهم، لن يخيفوا بها الأطفال، فالرعب فيها كفيل بقتلهم، من يقتل طفله؟ كان الخوف يتلبسني، أستغرب ذاك الضمير، هل تلبس الخوف نفسي أم تلبس الغزال المسكين أم تلبس الجثة الهامدة؟ هل كان هناك وجود حقيقي لأي منا؟ هل هناك معنى ما؟ اختفى حينا وظهر حينا آخر؟  

 
وقتها عرفت المعنى، معنى أن تفقد الحلم قبل النوم، أن تفقد الرؤية قبل العين، أن تفقد البصيرة قبل البصر، أن تفقد الشعور وملامسته لجلدك، أن تكف الأغاني والشعر عن كونها مادة حقيقية تغمرك فيها، تلمسها وتلمسك، هل كفت هي أم كففت أنت؟ أن تموت حيا يعني ألا تلامس التجربة بعد الآن، أن تموت حيا يعني أن تهرب كغزال سبق صيده مرات ومرات.. يجتر نفسه لموت هادئ على طرف فراش لين، تحيط به الأيادي الناعمة، والعيون العمياء.. وبينما تنسل روح الغزال ببطء، أتشكل من جديد، على طرف الكرسي جالسا مراقبا كظل لا يعرف صاحبه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان