الكتابة كغريها من المواهب تقود صاحبها إلى الطريق الذي يجب عليه أن يسلكه. لكنها تحتاج للكثير من الوقت حتى تكتشف أنك صادقتها، والمزيد من الوقت لتصدق أنك تستحقها، والكثير من المثابرة لتتقنها.
نقطة البداية ستكون بالكثير من الاطلاع؛ ليس كما يفعل الكثيرون لمجرد المباهاة ولا لحشو أدمغتهم بكتب لا يطيقون فهمها.. اقرأ فيما تحب. أذكر أنه في فترة الإجازة الصيفية كانت أمي تدفعني دفعًا للمشاركة في نشاط القراءة، والذي كان ضمن الأنشطة الصيفية بالمدرسة. لم أنس ذلك الكتاب الذي قرأته وأنا في الثامنة من عمري والذي كان يمثل أهم وأعظم كتاب قرأته في حياتي لعهد طويل، كان اسم الكتاب "حيوانات في التاريخ" أتمنى لو أتذكر اسم الكاتب أو ألتقيه لأشكره على إبداعه في هذا الكتاب القصصي الذي رافقني لفترة طويلة من حياتي، والذي أضاف لي الكثير من المعلومات التي اكتشفت روعتها بعدما كبرت.
لم أنسى معلمي.. لا أنسى كيف شجعني، وكيف انبهر بي وبموهبتي. ظننت حينها أنني واحدة من الأفذاذ، ولكن بعد الكثير من الأعوام، أخجل من تلك الشتلات التي غرستها في تلك الواحة الغناء.. فشكرًا لذاك المعلم |
الخطوة التالية ستأتي بعد اتقانك للقراءة والكتابة وبعض القواعد البسيطة التي تُعينك على تكوين جملة مفيدة؛ ستجد في نفسك نبوغًا في حصص الكتابة "التعبير"، أو ربما يكتشفه فيك مُعلمك. كنت نوعًا من الطلبة الكسالى، ومع الكثير من الواجبات والكثير من المواد كنت أضع نفسي على المحك دومًا. حينما كنت في الحادية عشرة من عمري وفي حصة التعبير لم أكن أعددت موضوع الكتابة كما طلب منا المُعلم. لم يكن هناك أي عذر من الممكن أن يقبله المُعلم لأعفي به نفسي من العقاب؛ استغللت انشغال معلمي بتصحيح دفاتر الطلاب وقبل أن يأتي دوري كتبت بضعة أسطر في موضوع لا أعلم عنه شيء سوى عنوانه على عجل؛ فوجئت بمعلمي يقول لي "مؤكد أن أحد إخوتك ساعدك في كتابة هذا الموضوع، كيف لطالبة في مثل عمرك أن تخط مثل هذه العبارات". لم يكن هناك مفر سوى أن أعترف أنني كتبت الدرس لتوي، واستشهدت بزميلتي التي كانت تجلس بجواري؛ لأنقذ نفسي من عقاب مُحقق. مر هذا الموقف وكأنه لم يكن ولم أتوقف عنده للحظة!
بعد المرحلتين السابقتين نكون قد وصلنا إلى أهم مرحلة والتي على أساسها سنقرر هل سيخرج المارد من المصباح أم أن مصباحك فارغ ولا مارد بداخله!
في الفترة التي تلت الفترتين السابقتين وجدتني أنجذب كغيري من البشر للعبارة الجزلة وللمعنى الجميل؛ ولكن بطريقة أعمق، كنت أتساءل كيف استطاع الكاتب أن يُصيغ كلامًا كهذا، كيف استطاع أن يخلق تعبيرًا كهذا، ويمزج ذاك المعنى بذاك الشعور فتخرج تلك المقطوعة الكتابية الرائعة.
استمرت فترة التعجب تلك معي بعض من الوقت حتى اكتشفت ماردي الخاص. تلك المرحلة هي أهم وأخطر مرحلة في المراحل السابقة.. كيف ستحرر مارد؟
عدت مرة أخرى حيث بدأت للقراءة، وبالتحديد أثناء قراءتي لأحد المجموعات القصصية لأحد الكُتاب، ولا أظنه معلومًا للكثيرين سوى تلامذته واللذين كنت واحدة منهم. جذبني هذا النوع الأدبي بشدة، واستهوتني فكرة القصة القصيرة؛ كونها تقول الكثير من المعاني في القليل من العبارات. بدأت كالأطفال بتقليد البنية التي أراها أمامي ولكن بشعوري الخاص وتعبيراتي الخاصة؛ وكان عليّ أن أعود للنهر الذي سقيت منه أول غرس لي في واحة الكُتاب، لم أنسى معلمي.. لا أنسى كيف شجعني، وكيف انبهر بي وبموهبتي. ظننت حينها أنني واحدة من الأفذاذ اللذين لم تنجب الأرض مثلهم، ولكن بعد الكثير من الأعوام، والكثير من القراءة، والكثير من الكتابة أخجل من تلك الشتلات الضئيلة التي غرستها في تلك الواحة الغناء.. فشكرًا لذاك المعلم الذي منح لغراسي الحياة "صلاح شفيع".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.