كان حجم المصالح الألمانية في الدولة العثمانية -التجارية، والاقتصادية، والاستثمارية، والثقافية- يحتم على ألمانيا الوقوف إلى جانب الدولة العثمانية، والتصدي للمخططات الأوربية الأخرى الساعية لتقسيمها. أما بالنسبة للدولة العثمانية فإن ضعفها الذي بدا واضحا في تلك الفترة جعلها تتطلع إلى ألمانيا لتكون حليفتها ضد هجوم دول الاستعمار عليها.
كانت ألمانيا تدرك أن مستقبل اقتصادها يكمن في آسيا الصغرى والمشرق العربي، ورأت أن الحل الأفضل لاستمرار سياسة التغلغل السلمي لا يكون بحل المسألة الشرقية، وإنما بالحفاظ على الوضع الراهن؛ أي الحفاظ على دولة السلطنة، وتُرجِمَ ذلك من خلال المشاريع التي قامت بها ألمانيا وأهمها خط حديد برلين-بغداد.
عسكريا وقبل الحرب العالمية الأولى كانت ألمانيا تتجنب توقيع معاهدة تحالف مع الدولة العثمانية لضعفها، وخشية الوقوع في صراع مع بريطانيا، ولكن بعد الحرب أصبحت تعمل على ضم الدولة العثمانية إليها في الصراع الكوني.
قامت إستراتيجية ألمانيا الحربية بالنسبة لاستخدام الإسلام على ثلاثة مرتكزات:
1- أن ينشط العثمانيون عسكريا ضد بريطانيا في مصر، وضد روسيا في القوقاز والبحر الأسود.
2- إقامة حلف إسلامي يضم السلطنة وفارس وأفغانستان، ليكون رأس حربة لمهاجمة الهند وطرد بريطانيا، وتكون فارس جسر العبور إلى أفغانستان لمهاجمة الهند.
3- استخدام الجهاد الإسلامي، وتعبئة المسلمين في المشرق والمغرب العربيين وفارس وأفغانستان والقوقاز والهند ضد الأعداء.
شددت الدعاية الألمانية على توطيد علاقات المسلمين بالسلطان كخليفة للمسلمين، والحصول على تأييد المسلمين ودعمهم للسياسة الألمانية، كما أظهرت الإمبراطور وليم الثاني صديقا للمسلمين ولم تحاول أن تنفي الشائعات حول اعتناقه للإسلام سرا |
وضع مستشرقون واقتصاديون ألمان أنفسهم بتصرف المجهود الحربي الألماني ومنهم ماكس فون أوبنهايم، وباول رورباخ، وأرنست ياكه، وفريديريش ناومان، ويعتبر ماكس فون أوبنهايم أحد كبار الشخصيات التي لفتت الانتباه قبل الحرب إلى أهمية استخدام الجامعة الإسلامية والجهاد الإسلامي، وحدد في أحد مذكراته الهدف المركزي لبلاده وهو جعل الإسلام سلاحا يخدم المصالح الألمانية.
إضافة لذلك حدد قنصل ألمانيا في دمشق ثلاث مهام تقع على عاتق الدعاية الألمانية بالنسبة إلى السكان المحليين:
1- إقناعهم بقوة ألمانيا.
2- تعريفهم بالمنافع التي سيجنونها.
3- الحسنات التي سيحصلون عليها إذا ما وقفوا إلى جانب ألمانيا.
ولتحقيق هذه الأهداف تأسس في برلين عام 1915 " مكتب استخبارات الشرق" برئاسة أوبنهايم وله فروع في مدن الدولة العثمانية، وذلك للتحريض على الجهاد والإشراف على الدعاية في البلدان الإسلامية.
سار العمل في مكتب الشرق في ثلاثة مجالات: جبهات القتال، التأثير النفسي في أسرى الحرب المسلمين لجعلهم يلتحقون بالجيوش العثمانية، الاهتمام بنشر الدعاية في الدول المحايدة، وفي البلدان الإسلامية الحليفة لألمانيا.
كذلك دعم المكتب الصحف الإسلامية في برلين ومنها " العالم الإسلامي"، و"العهد"، و"الرأي العام"، و"الشرق"، و"الاتحاد العثماني"، بالإضافة إلى جورنال دو بيروت، وجريدة أبابيل البيروتية، وصحيفة المهاجر في حيفا.
كما أنشئت معسكرات في ألمانيا كمعسكر الهلال الذي كان يحوي مسجدا بمئذنة لإيواء الأسرى المسلمين الذين كانوا يحاربون ضمن جيوش دول الوفاق وتأهيلهم للالتحاق بالجيش العثماني، ومن أجل تفعيل هذه الدعاية بين الأسرى انشئت مجلة "الجهاد".
تركزت دعاية مكتب الاستخبارات في آسيا الصغرى وسورية والعراق انطلاقا من عاصمة السلطنة، كما تسربت إلى مصر، والمغرب العربي. ضمت الدعاية الألمانية تقارير، وكتبا، وكتيبات، وصحفا، ومجلات، ومناشير، وبطاقات بريدية، واتصالات شخصية مع الأعيان فضلا عن الرسائل المفتوحة، وفي أغلبها كانت بلا توقيع أو تحمل أسماء مستعارة، وأبرز ما شددت عليه تلك الدعاية توطيد علاقات المسلمين بالسلطان كخليفة للمسلمين، والحصول على تأييد المسلمين ودعمهم للسياسة الألمانية، وأظهرت الإمبراطور وليم الثاني صديقا للمسلمين ولم تحاول أن تنفي الشائعات التي كانت تسري حول اعتناقه للإسلام سرا، وبقرب تحول شعبه إلى الدين الجديد، والتي كانت على ما يبدو من صنع المكتب نفسه.
يقول أحد المناشير: إن ألمانيا ودولة الخلافة تتصديان لمحاولات دول الوفاق تدمير الإسلام، وهدم الكعبة، وقبر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويخاطب حمية المسلمين بالقول: انهضوا لأمر الله ولأمر خليفة المسلمين وأمير المؤمنين الذي أعلن الجهاد المقدس في سائر أقطار الأرض ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا.
كما حاول الألمان التواصل مع الشريف حسين وتم لقاء بين أوبنهايم وفيصل في الأستانة، ومن أبرز من تعاون مع الألمان أيضا الأمير شكيب أرسلان، وعبد العزيز جاويش، وعزيز علي المصري، ومحمد فريد، كذلك سعى الخديوي عباس حلمي إلى الحصول على دعمهم.
بسبب الكراهية لدول الاستعمار لم يستطع العرب والمسلمون إدراك حقيقة الإمبريالية الألمانية وأهدافها، بل إن بعض علمائهم ساهم بنشر هذه الدعاية من خلال الإتيان بأحاديث ونصوص تشير إلى أن هناك ملكا أو إمبراطورا قويا سوف يسلم وينصر المسلمين، وأضحى إمبراطور ألمانيا في نظر المسلمين "الحاج غليوم" الذي يدعو له المصلون في مساجد دمشق وابن السلطان عبد الحميد الثاني الذي أرسله والده سرا إلى برلين للدراسة، والمنحدر من إحدى شقيقات الرسول، والمتظاهر بالمسيحية كي تبقى قوته وسلطته على رعاياه مع رغبته وتأكيده على أسلمة شعبه في الوقت المناسب، ووصلت سذاجة البعض إلى اعتبار وليم الثاني هبة الله للإسلام.
في فلسطين مثلا يرصد لنا خليل السكاكيني تأثير الدعاية الألمانية في بلده فينقل في أحد كتبه أهزوجة رددها الفلسطينيون: "غليوم يا خالنا، بسيفك نأخذ ثارنا".
هنا تكمن مشكلة المسلمين فبدلا من التعلم والاقتداء فضلوا الاستسهال وأسلمة الألمان وإمبراطورهم وجعلهم جنودا يحاربون أعداءهم.
يمكننا أن نقول إن الدعاية الألمانية وجدت لها صدى في كل أقطار العالم الإسلامي وتم الترويج لها بأدوات ووسائل شتى، كما ساهم المسلمون أنفسهم بنشرها ولا سيما علماؤهم ومشايخهم، وتم من خلال ذلك استغلال الإسلام والمسلمين والجهاد المقدس وتسخير الدولة العثمانية والجماعات الإسلامية والطرق الصوفية لآلة الحرب الألمانية، وهذا ما يجري اليوم في بلداننا وأقطارنا من تسخير لدول وجماعات واستغلالها باسم الدين والجهاد ولا سيما من قبل الولايات المتحدة الأميركية بدءا بأفغانستان ومرورا بالعراق واليمن وليس انتهاء بسوريا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.