أخذ مني العجب كل مأخذ، إذ كيف لرجل عاقل تأخذه رجلاه إلى السوق، ويُميز إشارات المرور أن يكون بهذا الحمق في أمور الدين – أي دين كان – فكيف بدين محمد صلى الله عليه وسلم، المبعوث بالعدل والقسط والصراط المستقيم.
لقد لاحظ الجاحظ "أن الناس يخصون الدينَ من فاحش الخطأ وقبيحِ المقال بما لا يَخُصُّون به سواه من جميع العلوم والآراء والآداب والصناعات". وعزز الجاحظ فكرته بأنك لو تأملتَ اليونان لوجدتهم أهل فكر ودقة نظر، لكنهم مع ذلك يعبدون البروج والكواكب. ولو نظرت إلى عرب الجاهلية لوجدتهم أهل أحلام ونُهى في شؤون الحياة، لكنهم يعبدون الحجر الصلد والصنم الأصم. ومع العقول الراجحة لهؤلاء وأولئك فإنك "متى نقلْتَهم من علم الدنيا إلى علم الدين وجدتَ عقولَهم مُحتبلة وفِطرَهم مُسْتَرقَّةً".
لا تنفك الإمامة في الدين عن مغانم ومغارم. فلم ينل الأئمةُ الأربعة صفة التصدر إلا لأنهم سُجنوا وامتحنوا كلهم دفاعا عما يرونه قسطا وإنصافا |
إن "استرقاق الفطرة" هو التفسير لما نراه اليوم من آراء وتصرفات لرجال ينتسبون للدعوة إلى الدين والعلمِ به، من أمثال إمام الحرم المكي عبد الرحمن السديس، وعمرو خالد، وعلي جمعة، وآخرين.
لقد عرف العالم الإسلامي السديس من خلال صوته الندي وهو يقرأ في الحرم المكي، فأحبه الناس وأحسنوا به الظن قارئا ربانيا. غير أن الأيام كشفت لهم أن السديس ممن يقيم حروف الكتاب، لا ممن يقف عند حدوده الداعية إلى الحق والعدل والنصفة.
اشتهر السديس بدفاعه عن فكرة الطاعة العمياء للقوة، مهما انفصلت عن الحق، رافعا شعار طاعة ولي الأمر ولو أخذ مالك وجلد ظهرك. غير أن الرجل انكشف أكثر عندما خرج شباب مدعومون من الجيش المصري للمطالبة بإقالة ولي الأمر -محمد مرسي- فوقف السديس مساندا لهم، ناقضا الفكرة المركزية عنده.
ولما انقلب العسكر على أول رئيس منتخب في تاريخ مصر وقف السديس مع تمويل السعودية للانقلاب واصفا إياه بأنه "أمنٌ واستقرارٌ ورفعة وعزة واجتماع كلمة". ثم وصف قرار ملك السعودية بالتدخل لصالح العسكر المنقلبين على ولي الأمر بأنه "نبراسٌ يرسم الطريق لسالكيه، وموقف تاريخي يبين الحق لطالبيه، وبلسمٌ ناجع يضمد الجراح ويواسي أهل الأتراح ويجدد الآمال والتفاؤل والأفراح".
إن وصف إمام الحرم المكي -وهو المؤتمنُ المسؤول أمام الله لتبيين الحق للناس- لانقلاب السيسي بأنه "بلسمٌ ناجع يضمد الجراح" تذكير لنا بـ "استرقاق الفطرة" وعمق الهوة الأخلاقية التي يتردى فيها بعض المنتسبين للدين. فمسؤولية الداعية -أو العالم المسلم- مضاعفة، لكونه يتحدث من خلفية تستبطن موقفا أخلاقيا متكئا على تراث الأنبياء القائم على العدل والقسط والتضحيات والشهادة بالحق: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط". وإذا انحرف الدعاة أو العلماء وشوهوا حقائق الإسلام من خلال ربطه بمواقف تأباها الفطر السليمةُ -كتأييد محرقة رابعة، وحصار أهل قطر في رمضان- يصبحون -على رأي الإمام الرازي- شرا "من السراق، لأنهم سرقوا من كتاب الله، (..) وشرا من قطاع الطريق، لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق".
شتان بين السديس، وبين رجال نقدهم بلسان حديد. رجال خالفوا السلطان ونابذوه -لإرضاء ضمائرهم والدفاع عن أمتهم- وهاهم اليوم ما بين سجين محكوم بالإعدام في زنزانة |
لا تنفك الإمامة في الدين عن مغانم ومغارم. فلم ينل الأئمةُ الأربعة صفة التصدر إلا لأنهم سُجنوا وامتحنوا كلهم دفاعا عما يرونه قسطا وإنصافا. فالإمام مالك خُلعت أكتافه لمخالفته السلطان، والإمام أحمد سجن وجلد لمراغمته للمأمون والمعتصم. كما قتل الإمام أبو حنيفة شهيدا، وامتحن الشافعي كذلك. وكان علماء الأمة واعين بخطر التطبيل المفتوح للملوك حتى كان الإمام الثوري يتاجر بالزيت، ويشير إلى بضاعته قائلا: "لولا هذا لتَمَنْدلَ بنا الملوك!".
أما الإمام السديس فينتمي لطبقة لا تعرف من الدين إلا مغانمه. فضيعات الرجل معروفة مشهورة، ومتاجرته في العقارات -الممنوحة من الملوك- مشهورة. وإذا ادلهمَّ الخطبُ وحانت لحظة دفع ضريبة الإمامة في الدين كعَّ، وخذل أمانة تبيين الموقف الشرعي للناس دون مواربة أو خداع: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون". قال الرازي: "هذه الآية تدل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يُكتم، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته".
شتان بين السديس، وبين رجال نقدهم بلسان حديد. رجال خالفوا السلطان ونابذوه -لإرضاء ضمائرهم والدفاع عن أمتهم- وهاهم اليوم ما بين سجين محكوم بالإعدام في زنزانة، ومشرد تتقاذفه بوابات المطارات بحثا عن ملجأ. شتان بين من يحضر لحظة الدفاع عن مبادئ الحق والعدل، وبين من لا يحضر إلا لأخذ المغنم:
وإذا تكونُ كريهةٌ أُدعى لها * وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدعى جُندُبُ!
إن طبقة "الجنادبة" -الحائسين الحيسَ فقط- طبقةٌ تُبَغّضُ الناسَ في الدين، وتفتنهم وتدفعهم إلى التساؤل عن حقانية دين يقف مع الظالم ضد المظلوم، ويتحول سدنته إلى صدى للحاكم مهما جانب الأخلاق وتنكّبَ الفطر السليمة. فالناس قد يرون غير المسلم وغير المتدين يُضحي بحياته من أجل العدل -كالفتاة ريشل كوري التي قُتلت وهي تحاول منع دبابة إسرائيلية من هدم منزل فلسطيني- ويرون دعاةً وأئمة لا ينكرون منكرا ولا ينبسون بكلمة مخالفة لمن يملك القوة. بل تدور مواقفهم من القدس والاستيطان وإسرائيل مع خطرات الحاكم. هذه المفارقة تؤدي ببعض الناس إلى إساءة الظن بالدين، فيكون هؤلاء سببا لإخراج الناس من الدين.
ولعل الحكيم وضع يده على الداء، كأنه يصف هذه الطبقة من الشيوخ حين قال:
أما النبيذُ فلا يذْعَرْكَ شاربُه … واحفظْ ثيابَك ممن يشربُ الماء
قومٌ يُوارون عمّا في صدورهمُ … حتى إذا استمكنوا كانوا همُ الداء
مشمِّرين إلى أنصاف سوقِهم … هم اللصوصُ، وهمْ يُدْعوْنَ قُرّاء!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.