يأخذنا الكاتب الإفريقي الشهير "تشينوا أتشيبي" في روايتهِ "أشياء تتداعى" إلى قريةٍ إفريقيّة بسيطة. اجتمَع أهلها تحت ظِلّ دينٍ وأساطير وعادات وتقاليد ورِثوها عن آبائهم واطمأنّوا إليها. في الجزء الأول من الرواية، يبسُطُ الكاتب تفاصيل تلك العادات وذلك الدين. فقد كانُوا على حالٍ قريبٍ من حال العرب الجاهليين، من عبادة الأوثان والتّقربِ بها إلى الخالق. وقد كانت لهُم مجموعة من القوانين التي يتمّ تطبيقها على الكبير والصغير، والعظيم والحقير. لا فرق. وسواءٌ كانَت تلك القوانين ظالمةً أو عادلةً، فقد شكّلت معالم هوّية ذلك الشعب، تلك الهويّة التي لم تلبَث إلى أن قُلِبَت رأساً على عقِب إثر مجيء المُستعمِر الأبيض في الجزء الثاني من الرواية.
أوّل ما فعلهُ المُستعمِر حين وصَل، هوَ بناء كنيسة. استعملها لكَسب الناس إلى دينِه الجديد، ولنشر ثقافة وعادات وتقاليد مختلفة. تغلغل المستعمر في ثقافة القبيلة شيئاً فشيئاً مرتدياً لباس الدين ومُبشّرا بالحقّ المبين، إلى أن انتهى الحال بأولئك الذين أصرّوا على التمسُّك بهويّتهم لاختيار الموت، فانتحروا! كما فعَل بطل الرواية.
لا تهمّني التفاصيل في الرواية كثيراً، ولا تهمّني عادات وتقاليد تلك القبيلة. كما لا يهمّني دينها ولا دين المُستعمر الجديد. فليس النقاش هُنا حول ما إذا كان الدين الجديد هو الحقّ، أم الدين القديم. إنَّ المُلفِت حقّاً في هذه الرواية هو صورة الدين التي عكَسَتها الرواية كأفيون حقيقي، وكطريق سهل ومُمهَّد للتلاعب بالشعوب. ولكنني أعتقد، أننا كي نفهم حقيقة هذا الأفيون العجيب، فإنه يجب علينا أن نطرُق باباً أهمّ: وهُو طبيعة الأشخاص الذين يُمكن للدين الجديد أن يؤثر فيهِم. هذه النقطة بالذات غاية في الأهمية – وربّما لا يلتفت إليها كثير من القرّاء. هل الدين بالفعل أفيون؟ أم أنَّه كالعَجين، مُحايد لا طبيعة خاصَّة لهُ، والأشخاص هُم من يُحوّلونه إما إلى أفيون أو إلى أي شيء آخر؟
فكّرتُ في هذا السؤال وأطرحُ هُنا محاولتي لإيجاد جواب: أعتقد، بدايةً، أن الدين ليس أفيوناً بذاته، إنما يتحوّل إلى أفيون بسبب أولئك الذين يحتضنونه. حين نتتبع سَير انتشار الدين الجديد في الرواية، نجِد أن أوّل المؤمنين به كانوا إمّا أولاداً ناقمين على آبائهم (مثل ابن بطل الرواية) أو أفراداً لا شأن لهم في القبيلة، وربّما كانوا ناقمين هُم أيضاً على بعض تصرّفات أصحاب الطبقة العُليا في قبيلتهم. وهذا ما عبَّر عنه بوضوح أحد شخوص الرواية حين قال: "لم يكُن هُنالك أحدٌ من الذين تحوّلوا إلى الدين الجديد ذا كلمة مسموعة في اجتماعات القبيلة، أو مِن عائلة مرموقة. كُلهم كانوا أفراداً لا شأن لهُم. أفرادا فارغين".
لذلك، فعَل فيهم ذلك الدين الجديد فِعل الأفيون. ولِمَ لا؟ كانوا في تلك القرية أفراداً متحمّسين لم يُتِح لهم أسياد القبيلة أي فرصة، ولم يُفسحوا أمامهم المجال كي يفعلوا فِعل الأسياد ولم يُعطوهُم حقَّهم في الكلام. الدين الجديد جاء ومنَحهُم صوتا، وأتاح لهُم مكاناً مُقدَّماً فيه. مكاناً عالياً كالأسياد. فلِمَ لا يُجيبون؟ بلى! كان لا بدّ من أن يلتحقوا بالدين الجديد، غير آبِهين بالأطماع الاستعمارية.
هذه هي الحال التي يكون فيها الدين أفيوناً: عُندما يُتاح لهُ هكذا أشخاص ناقمين! تماماً كما يفعل الإلحاد حاليا بكثير من الشباب العربي الناقِم. وكما فعل قبل ذلك بالشباب الأوروبي الناقِم. وكُل أفيون كان أو سيكون (ديناً كانَ أم فكرة أم خطّة سياسية أم غير ذلك) فإنه لا يُصبح أفيوناً حقيقياً، إلا حين يتوفّر له ذلك الشعب الغاضب، الناقم على كلّ شيء. فيأتي هذا الأفيون ليطرح نفسه كبديل، أو كغصن شجرة وسط بحر هائج. فهل لنا أن ننقِم على الغرقى استعصامهم به؟
ربّما كان لزاماً علينا في الوقت الحاضر أن نعَيَ بأنَّ علينا، حتّى نتخلص من الأفكار الأفيونية من حياتنا، أن نقضي أولاً على مُستقبلاتها في أنفُسِنا وفي مجتمعاتنا. فالمُجتمع الواعي يُحيط نفسه بجهاز مناعي قوي ضدّ أي تأثير لأي أفيون. أو على الأقل، يحتوي هذا الأفيون ويعزله.. ويعالجه. إما أن نفعل ذلك، أو ننتهي بالموت -فكرياً وجسدياً- كما انتهى بطل رواية أتشيبي تعيس الحظ!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.