ضغوط العمل ومسؤولياته قد تسبب لدى البعض حالات من الأمراض النفسية كالتوتر والاكتئاب وغيرها وعادة تزداد الحالة سوءا كلما تعقدت طبيعة العمل ومسؤولياته. فما بالك إذا كانت هذه الوظيفة هي إدارة دولة؟
يذكر التاريخ أن قادة عظماء (عظماء هنا ليست للإشارة إلى القيمة الإنسانية الإيجابية بل لجسامة المسؤوليات بغض النظر عن قيمتها) أمثال تشيرتشل وستالين وهتلر كانوا يعانون من أمراض نفسية بعضها معقد مثل الاكتئاب العصبي والاضطرابات الشخصية واضطرابات المزاج وجنون العظمة والنرجسية والانفصام والفوبيا وغيرها. والعصر الحديث لا يبخل علينا كذلك ببعض الأمثلة الحية من واقعنا أمثال ترمب وغيره.
لذلك عند محاولتنا فهم السيكولوجيا السياسية لقائد أو زعيم ما ينبغي أن نفهم الظروف المحيطة بهذا القائد وتاريخه وثقافته ومعتقداته وأهدافه والمؤثرات الخارجية والداخلية في سياساته. بمعنى آخر، علينا دراسة السلوك السياسي وديناميكيته من خلال معطيات ملموسة وليس من خلال نظريات وهمية او ادعاءات. وغالبا ما يتم تطبيق نظريات السلوك السياسي ضمن سياقات محددة مثل اتخاذ قرارات السياسة الخارجية والداخلية وكيفية التعامل مع وسائل الإعلام وفي أوقات النزاعات والصراعات والحروب وتضارب المصالح.
عندما تظهر علامات الإصابة بأحد الأمراض النفسية، تبدأ المسميات والمفاهيم بالاختلاف والاتجاهات بالارتباك والسلوكيات بالتناقض. حتى قد تخطئ البوصلة السياسية للحاكم في تحديد الشمال من الجنوب والشرق من الغرب |
وبالتالي قد يتم تشخيص الحالة المرضية بما يتوافق مع هذه المعطيات وبالطبع ستتوقف الجهود عند التشخيص لأن لا أحد سيجرؤ على اقتراح وسائل العلاج للقائد الملهم! لهذا السبب تجد الشعوب في الغالب في حالة نفسية أكثر صحة واستقرارا من الزعماء لأنه تتاح لهم فرص التشخيص والعلاج دون خوف. والمعروف أن المرض، سواء أكان عضويا أو نفسيا، هو الشذوذ عن الحالة الطبيعية وعن الوضع السوي. فمريض القلب، على سبيل المثال، يعني أن قلبه لا يعمل بصورة طبيعية. فما هو غير الطبيعي وغير السوي بالنسبة لقائد أو زعيم أو رئيس مصاب بمرض نفسي أو ربما بمجموعة من الأمراض النفسية؟
التاريخ العربي وحاضره حافلان بالأمثلة. ولكن بسبب حيادية الكاتب في زمن التجاذبات الغريبة التي إما أن "تدحلك دحلا" سريعا إلى منزلة رفيعة مقربة من الحاكم وإما أن تلقي بك في أحد معتقلات عدن، فإنني أتناول الموضوع من وجهة نظر تحليلية محايدة أكثر منها سياسية مبطنة.
عندما تظهر علامات الإصابة بأحد الأمراض النفسية، تبدأ المسميات والمفاهيم بالاختلاف والاتجاهات بالارتباك والسلوكيات بالتناقض. حتى قد تخطئ البوصلة السياسية للحاكم في تحديد الشمال من الجنوب والشرق من الغرب. فمثلا نية الذهاب إلى غزة لتحية أهلها على مقاومتهم الباسلة للاحتلال قد تتغير بسبب المرض وينتهي بنا المطاف بالهبوط في تل أبيب ولنفس غرض التحية ولكن لمقاومتهم للإرهاب.
حتى أن الحاكم، في بعض الحالات المرضية المعقدة، قد يتوهم أنه هو نفسه مضطهد و"غلبان" حتى تصل به النوبة المرضية إلى عرض نفسه للبيع وبدلا من أن يبيع نفسه، تختلط الأمور عليه مرة أخرى فيبيع أرضه. ويفسر أطباء الصحة البرلمانية والدستورية والإدارية هذه الحالة بالنوبة التي إن حدثت "فخلاص الموضوع انتهى."
مجرد الاختلاف بوجهات النظر مع الصديق سيبرر التحالف مع العدو والتحالف مع العدو سيبرر تكميم الأفواه وتكميم الأفواه هو صك الولاء المطلق |
ومن علامات هذه السلوكيات أن تتداخل فصول السنة في مخيلة الزعيم بعضها ببعض. فالربيع (سواء أكان عربيا أو أعجميا)، يصبح خريفا. وبدلا من اغتنام فرصة الربيع لقطف ثمار الإصلاحات والديموقراطية والعدل وحسن الجوار، تقتلع الأشجار من جذورها وتترك بالعراء لتجف وتصبح هشيما ووقودا لنار فتنة قادمة. وتتفاقم حالة الوهم حتى يصبح العدو صديقا والصديق عدوا.
فمجرد الاختلاف بوجهات النظر مع الصديق سيبرر التحالف مع العدو والتحالف مع العدو سيبرر تكميم الأفواه وتكميم الأفواه هو صك الولاء المطلق. ولكن قد يضجر الزعيم المريض من حالة التكميم والهدوء المطبق، فترى حوله ضاربي الطبول وعازفي الأبواق ومؤلفي الفتاوى، ولن يكترث الزعيم بالتكلفة الباهظة لخدمات الترفيه هذه، فضربة الطبل الواحدة بصاع من الأرز الأخضر وصاعين مقابل كل شعرة من لحية مؤلف لفتوى. فلا ضرر ولا ضرار، فالفتاوى تصدر بمقدار "صاعة" ولي الأمر وليس من مبدأ طاعته!
وكذلك إدارة الصراع تعني تأجيجه. فبدلا من محاولة احتواءه بدائرة مائية ضيقة، يعمد الزعيم المصاب بوهم "مطاردة أشباح الماضي له"، لتوسيع دائرة الصراع حتى يشمل أعراق وأجناس وأنساب أخرى إنسانية وغير إنسانية. فقد يلجأ للتحالف مع أحفاد الخنازير ورعاة البقر ضد رعاة الإبل. وقد يحاول شحذ همة الفراعنة لجز رقاب الغساسنة. وأما أدوات إدارة الصراع فتوظف بالقدر الذي يسمح ببقاء الأشخاص غير المصابين بنفس الأمراض في الحجر الصحي والتمادي في الاعتقاد بأن سيادة الجيران واستقلالهم هو شأن بلدي داخلي يحدده هو. فيقرر كم مرة يستطيع الزوج لقاء زوجته في الأسبوع، وكم مرة يستطيع الأخ محادثة أخيه في الشهر، وكم مرة يستطيع الإبن زيارة والديه وحتى تحديد البقعة الجغرافية المسموح للإبل والأغنام أن يتخلصوا من فضلاتهم فيها وكذلك تحديد نوع العلاقة بين الجيران الآخرين.
للأمانة والدقة التاريخية هناك محاولات بذرت بذور النجاح، فبعض الشعوب حاولت إعادة تأهيل حكامها وإعادة صياغة المفاهيم السيكولوجية التي تحكم سلوكياتهم حتى يتحقق الانسجام مع المزاج العام للشعب والتوازن بين مخرجات ممارسات الحاكم والمحكوم |
فيسمح للبعض بالتواصل عبر كل القنوات التي تمر من خلاله والبعض الآخر باستخدام جزء من هذه القنوات ويمنع عن الآخرين الماء والهواء والغذاء عقابا لهم على توجيه اللاقط إلى قمر اصطناعي غير قمرهم والأدهى والأمر أن يطلب من كل المحيطين به أن "ينسجموا مع محيطهم العربي." بمعنى أدق أن يصابوا بنفس الأمراض ولو عنوة.
وللأمانة والدقة التاريخية هناك محاولات بذرت بذور النجاح، فبعض الشعوب حاولت إعادة تأهيل حكامها وإعادة صياغة المفاهيم السيكولوجية التي تحكم سلوكياتهم حتى يتحقق الانسجام مع المزاج العام للشعب والتوازن بين مخرجات ممارسات الحاكم والمحكوم. وبالمقابل هناك شعوب أخرى اصطدمت بالجدران العالية لمراكز التأهيل ولم تستطع تخطيها. فمنها من لديه الإصرار ويحاول حفر أنفاق تحت الجدران حتى يصل للداخل ويفتح أبواب التأهيل، ومنها ما أصابه اليأس وسلم بالأمر الواقع وبدأت عليه نفس أعراض أمراض زعمائهم.
فمحاولات التغيير لا تتعدى الآن تعلم طرق جديدة للتطبيل والتزمير وإصدار الفتاوى وتحريف التاريخ حتى يصبح منسجم مع الحاضر. فبدلا من صياغة مجموعة سلوكيات سياسية جديدة، يتم تغيير كل المفردات السياسية والاجتماعية والاقتصادية السوية. فصارت الديمقراطية تعني التمرد والمطالبة بالإصلاح تعني انقلاب على نظام الحكم ومقاومة المحتل ارهابا والعمل الخيري تمويل للإرهاب وبناء المساجد يعني بناء أوكار للمؤامرة وبناء المدراس يعني بناء مؤسسات إيديولوجية هدامة ومحاربة الوعي تعني الإعلام الهادف.
عذرا فانا مضطر لأن أصدر فتوى: إذا كان الهواء المحيط بك مشبع بالسموم والقاذورات، فلا حرج أن تشرب من لبن الحمير التركي لثبوت فائدته في علاج أمراض الجهاز التنفسي!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.