شعار قسم مدونات

بين ملوك الحصار وملوك الطوائف

مدونات - دول الحصار

حين أتأمل صفحات التاريخ أجد في كثير من الأحيان تكرار العديد من مشاهده وصفحاته بنفس المقدمات وبنفس النتائج، وأن ما يدور اليوم في كثير من الأحداث ليس سوى طبعة حديثة لفصل قديم من كتاب التاريخ بنفس المحتوى ونفس المضمون. غالبتني هذه الخاطرة حين تذكرت قصة المسلمين بالأندلس كيف كانت وكيف انتهت، وفي كل مرة أستدعيها أخرج باستنتاج واحد مفاده أن ضياع الأندلس المسلمة بعد قرون من الحضارة والازدهار لم يكن بسبب قوة أعدائنا بقدر ما كان بسبب هزيمتنا أمام أنفسنا وما كان بيننا وبأيدينا من الفرقة والتشرذم والتناحر، تماماً كما هو حالنا الآن. 

فُتحت الأندلس على يد المسلمين سنة 92هـ بقيادة طارق بن زياد، وتوالت الانتصارات على يد موسى بن نصير وعبد الرحمن الداخل وغيرهم من قادة المسلمين في ملاحم متلاحقة، وسرعان ما انتشر الإسلام بربوع الأندلس، ووصلت في العهد الإسلامي لأوج حضارتها وازدهارها، وتحولت لمنارة ومركز حضاري يلجأ إليه الجميع من كافة بقاع الدنيا طلباً للعلم والمعرفة والفن والأدب، حتى أصبحت الأندلس من أهمّ الحواضر الإسلامية في ذلك الحين.

فبدون إسقاط أحداث الأندلس على تاريخنا المعاصر لتجنب أسباب السقوط وتفاديه، فسنظل نرتكب نفس الأخطاء ونقع في نفس الجرائم التي وقع فيها من أضر بالأمة الإسلامية وأضاع حضارتها.

ثم كانت سنة الله الغالبة التي لا تحابي أحد "وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.." (الأنفال:منن الآية46)، فقد جاء عهد "ملوك الطوائف"(400هـ – 483هـ) الذي تفتت فيه الأندلس لدويلات متقطعة الأوصال، وصل عددها إلى أكثر من عشرين دويلة وطائفة، حيث استقل كل أمير بما تحت يده من أرض وممتلكات كدويلة صغيرة ويجعل من نفسه ملكاً عليها. ولم يكتف ملوك الطوائف بما أحدثوه من تفتيت وتمزيق لدولة الأندلس الكبيرة، بل قامت بينهم حروب طاحنة لم يخمد أوارها طيلة عهدهم، وتسابقوا على كسب مودة عدوهم واستعانوا به لقتال بعضهم البعض، حتى وصل بهم الأمر من الذل والهوان إلى دفع جزية لأمراء قشتالة وأراغون وليون وغيرهم من قادة الصليبيين، وتنازلوا لهم طوعاً عن بعض مدنهم وحصونهم، بل واستخدمهم الصليبيون في حربهم ضد بني جلدتهم بالإمارات الأخرى‏.‏

حتى وقف الشاعر الأندلسي "ابن العسال" يبكي ويحذر أبناء عقيدته ‏المتناحرين بعد أن راعه سقوط طليطلة واسطة عقد المدن الأندلسية في يد الصليبيين، وقد استشرف مآلات الأحداث ومقدمات السقوط الكبير:‏

شدّوا رواحلَكم يا أهلَ أندلس ***  فما المقامُ بها إلاَّ من الغَلَطِ 
الثَّوب ينسلُّ من أطرافه وأرى  *** ثوبَ الجزيرة منسولاً من الوسطِ 
من جاور الشرَّ لا يأمن بوائِقَه *** كيف الحياةُ مع الحيَّات في سَفطِ

ولعله لو عاش أيامنا ورأى ما نرى، لصرخ في "ملوك الطوائف الجدد" وذكرهم بما مضى كشاهد عيان بما لم يكن في الحسبان، وكيف أنهم على خطى من أضاعوا بلاد المسلمين وفرطوا في رسالتها وأرضها وثرواتها ومقدراتها.

فبدون إسقاط أحداث الأندلس على تاريخنا المعاصر لتجنب أسباب السقوط وتفاديه، فسنظل نرتكب نفس الأخطاء ونقع في نفس الجرائم التي وقع فيها من أضر بالأمة الإسلامية وأضاع حضارتها وفرص نهوضها، ولوقعنا فيما أشار الله تعالى إليه "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً.." (الجمعة: من الآية 5).

فثمة مشاهد متطابقة ومتكررة من قصة سقوط حاضرة الأندلس نراها الآن في أزمة الخليج والحصار المضروب على دولة قطر المسلمة، حصار يتولى كبره وعاره إخوة الدين والدم، تتكرر فيه نفس المقدمات الساذجة والأخطاء الفادحة والمحرمات المعلومة من الدين بالضرورة التي ارتكبها ملوك الطوائف، كحصار المسلمين وقطيعة أرحامهم وتجويعهم وإضعافهم، وإهمال حق الجوار، والفجر في الخصومة، وموالاة أعداء الإسلام وبذل المال لمحاباتهم، والوقوف في خندقهم وتحقيق مآربهم وأهدافهم ومخططاتهم..، وغير ذلك من الأفعال التي أودت بهم في نهاية المطاف إلى ذهاب ملكهم جميعاً، وغياب شمس الأندلس المسلمة. 

undefined

ومن المشاهد الجلية التي يشترك فيها ملوك الحصار اليوم وعبثهم بحاضر أمتنا وغفلتهم عن سوابق التاريخ ومعطياته وسننه وقوانينه، وتشبههم بمن كان قبلهم من ملوك الطوائف وأفعالهم:
1-  التناحر فيما بينهم بدلاً من الوحدة والاتفاق:
فقد فشل ملوك الطوائف في تحقيق الوحدة فيما بينهم والتكتل ضد أعدائهم المتربصين بهم، وكان هذا من أهم الأسباب التي أدت إلى إضعافهم جميعاً وكسر شوكتهم وذهاب ريحهم، ومن ثم سهولة القضاء عليهم لاحقاً.

2- الاحتماء بالأعداء مقابل دفع جزى وإتاوات:
كان ألفونسو أشهر الأمراء الصليبيين يتظاهر بحماية ملوك الطوائف، وتماماً كما فعل "ترمب" فقد أعلن ألفونسو أن حمايته لهم لن تكون مجانية بل عليهم دفع جزية في المقابل، وهكذا كان يضرب ملوك الطوائف بأيديهم ويجني في نفس الوقت من وراء ذلك مبالغ طائلة يدفعونها مقابل الحماية وكف اليد عن قتالهم. واشتهر من هؤلاء "ابن الأحمر" ملك غرناطة، الذي تعهد بأن يؤدي جزية سنوية قدرها مائة وخمسون ألف مرافيدي ‏(‏عملة أسبانية). وحقيقة لا أدري كم تساوي قيمتها اليوم ؟، لكني على يقين تام أنه مهما كانت قيمتها في وقتها فإن تقديرها بما تساويه اليوم لا يمكن بحال أن يصل إلى 400 مليار دولار.

3- الغفلة عن إدراك العدو الحقيقي:
فقد غفل ملوك الطوائف عن عدوهم الحقيقي المتربص بهم والذي لا يكف عن الوقيعة بينهم وإنهاكهم للإجهاز عليهم في النهاية، وبدلاً من التكاتف لمواجهته فقد انصرفوا لقتال بعضهم البعض والاستعانة بعدوهم على أهل ملتهم، ولو سألت ملوك الحصار اليوم عن عدوهم وفق رؤيتهم؛ فسترى من سيشير إلى قطر ومن تعاطف معها، ومن سيشير إلى تركيا ومن أيدها أو حماس المقاومة ومن ساندها.. في غفلة عن عدوهم الحقيقي الصهيوني المحتل لأرضهم ومقدساتهم.

انخرط أبو عبد الله في البكاء لكن بعد فوات الأوان، فتلقى من أمه نيابة عن الإسلام والمسلمين كلمات حفظها التاريخ ولم يعيها ملوك الحصار حتى اليوم بينما نرى مقدماتها: ‏ابك مثل النساء ملكاً لم تحفظه حفظ الرجال‏‏.

4- مهادنة الأعداء ومودتهم وحصار المسلمين والإضرار بهم:
وعلى خطى ملوك الطوائف نرى حصار قطر ومن قبله حصار غزة.. وما بدى من لدادة في الخصومة، ومغالاة في القطيعة، وإنكار القيم الدينية والإنسانية، وغياب الرؤية المصلحية الجامعة، في الوقت الذي نرى فيه من ملوك الحصار مهادنة أعداء الأمة والمسارعة فيهم وإعلان طاعتهم وتبني قضاياهم، وإدارة الحكم وتحديد الأعداء وتوزيع الاتهامات نيابة عنهم، ودفع الإتاوات لإرضائهم بدلاً من محاسبتهم عن جرائمهم في حق الإسلام والمسلمين..

 تماماً كما كان من "ابن الأحمر" ملك غرناطة في مهادنته لألفونسو الصليبي واعترافه له بالطاعة، وإبرامه لمعاهدة صلح يسلم للصليبيين وفق شروطها عدة مدن وحصون وقلاع كانت تحت أيدي المسلمين، وأن يحكم باسمه وفي ظله، وأن يؤدي إليه جزية سنوية، وأن يعاونه في حربه ضد أعدائه ‏(‏المسلمين)‏!‏ واستغل ألفونسو هذا الصلح ليتفرغ للسيطرة على ما تحت أيدي المسلمين من المدن الأخرى، فهاجم مدينة أشبيلية المسلمة، وياللعجب!! فقد كان من ضمن جحافل قوات ألفونسو المهاجمة لأشبيلية كتيبة من المسلمين باسم (التقدمية‏‏)‏! أرسلها ابن الأحمر لمحاصرتها تحت لواء الصليبيين. 

لم تسلم غرناطة لاحقاً من مصير غيرها من المدن، فحين جاء وقتها كان أبو عبد الله -آخر ملوك غرناطة-‏ يركب سفينته مقلعاً عن غرناطة آخر مدن الأندلس الإسلامية، انخرط أبو عبد الله في البكاء لكن بعد فوات الأوان، فتلقى من أمه نيابة عن الإسلام والمسلمين كلمات حفظها التاريخ ولم يعيها ملوك الحصار حتى اليوم بينما نرى مقدماتها: ‏ابك مثل النساء ملكاً لم تحفظه حفظ الرجال‏‏.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان