كانت صيدحُ تمشي الهيْدَبى بين منطقة سدرة ووادي الأحساء. ترعى الخزامى، وتُرضع فصيلَها، وتتردد بين مضارب القبيلة شرقا وغربا؛ كما فعلت جداتُها في هذه الربوع منذ آلاف السنين.
كانت ناقة دهماءَ دَوْسَرَةً، يتبعها فصيل أحمر. انحدرتْ من كثيب وهي تشعر بمتعة تفرّق الرمال تحت أخفافها، فركضتْ قليلا، مما حمّس فصيلَها على الركض، فتجاوزها ليلاعب فصلانا يتراكضون غير بعيد.
وقفت صيدحُ عند شجرة سدر ورقاء. غرزتْ أخفافها في الأرض وبدأت تأكل بهدوء، بينما كانت ريح الصَّبا تداعب جانب السدرة الآخر. كانت أخفافها قوية صلبة في غير اكتناز. فقد أورثتها آلاف السنوات من الضرب في هذه الصحراء قوةً ومتانة. فصحراء العرب هي مجالها الذي تتحرك فيه على غير هدى، لا تحدها حدود.
أرسل محمد نظرةً من عينين حادتيْن كأنهما عينا باز، متأملا الكثبان المترامية، وتفرقَ الإبل عليها، مفكرا كيف يمكنه جمعها قبل غروب الشمس. فهو على موعد ليلة الغد لرؤية ابنة عمه التي طالما صاحبته صورتها بين هذه الكثبان الصامتة |
فقبل مئات السنين، كان أحدُ الفرسان يقود إحدى جداتِها في نفس البقعة وهو يحْدُو في هزيع الليل:
إذا شالتْ الجوزاءُ والنجمُ طالعٌ * فكلُّ مخاضاتِ العراق مَعابِرُ
وإني إذا ضنَّ الأميرُ بإذنهِ * على الإذن من نفسي إذا شئتُ قادرُ!
لطالما سرتْ صيدحُ -مُدْلِجَةً أو مُعَرِّسَةً- تحت نجوم السماء، تملأ الفضاء حنينا، مُيَمِّمَةً أرضا؛ بحثا عن مواقع القطر والرعي، أو حنينا إلى موطن من المواطن.
على قرب من المشهد، وقف مالكها محمد، فملأت أنفَه رائحةُ الإبل، فانتشى سعادةً وطربا ببنَّتها. فلا يوجد عطر في الدنيا يضاهي الرياحَ القادمةَ برائحة الإبل في أنفه.
أرسل نظرةً من عينين حادتيْن كأنهما عينا باز، متأملا الكثبان المترامية، وتفرقَ الإبل عليها، مفكرا كيف يمكنه جمعها قبل غروب الشمس. فهو على موعد ليلة الغد لرؤية ابنة عمه التي طالما صاحبته صورتها بين هذه الكثبان الصامتة.
عدّل عقالَه على رأسه مفكرا: كيف يمكنه التماسك ليلة الغد إذا رأى ابنة عمه، مع إخوتها وعمه؟
رمى عودا كان بيده، واحمرّ وجهه خجلا رغم أنه وحيد في صحراء ممتدة لا أنيس بها.
قطع السكونَ حنينُ ناقة، واحتكاكُ أضراس جمل أورق يطارد آخر.
التفت جهةَ الغروب فرأى الشمس قانيةً، خُيّل إليه أنها قلب عاشق… قلبه هو، أو قلب بنت عمه.
ركض إلى قمة كثيب وجلس. غرز عصاه بين ركبتيه، مرسلا التفاتةً سريعة جهة الشمس وهو يفرك أسنانه بمسواك، محدثا نفسه: "سأجمع الإبل الآن وآخذها إلى مُراحِها، ثم أنامُ نوما هنيئا على أن أجهز نفسي للقاء بنت عمي غدا مساء."
شخصتْ صورتها في ذهنه فتأوه قائلا: "فدَيتشْ".
بعد غروب الشمس بنصف ساعة، وصل إلى بيوت أهله. بيوت متناثرة تتوسطها خيمة شعر كبيرة.
كان حنينُ الإبل، وضحكاتُ أطفال الحي تملأ المكان، وهو يتجاوز آخر فصيل من الإبل عن يمينه ليدخل إلى بيت أبيه متلهفا ليحدث أمه عن لقائه ليلة الغد بابنة عمه.
عندما اقترب من مدخل البيت، سمع صوت سيارة مندفعة جهة الحي الهادئ.
وقف أمام مدخل البيت، متأملا أضواء السيارة القادمة.
مرت هنيهاتٌ قلقة، ثم تمتم: "عسى ما شرّ!"
وقفت سيارة رباعية الدفع، وقفز منها عسكري وصاح
– الأوراق الثبوتية!
ثم أردف العسكري متلعثما:
– وبعدين، وينْ الإبل القطرية؟!
كانت هذه أول مرة في حياة محمد، وربما حياة آبائه يسمع فيها غريبا يتحدث عن إبل أهله بهذه الصيغة. ضجتْ جمجمته بآلاف الأسئلة والإجابات والاحتمالات والخيالات. تذكر أحاديث أعمامه وهم جلوس حول النار المشبوبة على الكثبان في ليالي الشتاء الطويلة.
تذكر ارتباطهم بالأرض، ووفاءهم لها، وارتباطهم بالقبيل والعربان ومجموعة القيم التي يقدم الفتى من قومه رأسَه فداءً لها.
تجمّد محمد بمكانه، واندفع العسكري بالأوامر المتلاحقة:
– يجب إخراج الإبل القطرية، وإبقاء الإبل السعودية!
رفع محمد شفته العليا عن أسنان قوية مصفرّة وقال بتلكؤ
– "والله ماني بفاهم شي!"
وقف محمد مصدوما يرقب المشهد، فما كان يظن أن الكريم يمكن أن يضرب كرائمَ الإبل. فقد علمته تقاليد قبيلته أن العربي الكريمَ لا يضرب وجنةَ فرسٍ ولا خدود ناقة، فذلك خلقٌ من أخلاق لئام الرعاة |
أدار في ذهنه كل الأوصاف التي حفظها من أجداده عن صنوف الإبل، فلم يتذكر صفة "القطرية" ولا "السعودية" صفة لناقة أو جمل.
أثناء الضجة، اندفع والد محمد خارجا من البيت يرتب عقالَه، وانتحى جانبا يحادث العسكريين.
طال الحديث.
ظل محمد واجما مصدوما لا يكاد يستوعب ما يدور.
رفع بصره متأملا الإبل التي يميز كل واحدة منها بدقة رغم تكاثف الظلام. ثم نظر إلى الشفق، مفكرا في حديث سمعه من شيخ القبيلة قبل أعوام: "نحن يا ولدي، أهل هذه البلاد، وما دامت هذه الإبل تحمل ميْسَمنا، وأنت تحمل اسم قبيلتنا فلا يستطيع أي كان أن يتعرض لك… هذا اتفاق العربان."
مرت لحظات بطيئة كأنها بعير مقيد.
ودخل جنود بأيديهم سياطٌ إلى مُراح الإبل.
وقف عسكريٌ تزيّن الأوسمةُ منكبيْه، وجعل يشير بسوطه:
– ايه، هذي الناقة قطرية! تلك سعودية!
كان أحد الرعاة المعروفين باللؤم يساعد الجنود على التمييز بين النوق القطرية والأخرى السعودية. كان يصيح بصوت حاد:
– إيه، هذي يملكها مسعود… قْطرية!، لا، ذيك يملكها أخوه محمود، يعني سْعودية!
كان العسكري يشير بسوطه، وكان جنوده يضربون الإبل بسياطهم للتفريق بينها، تمهيدا لطرد النوق القطرية.
وقف محمد مصدوما يرقب المشهد، فما كان يظن أن الكريم يمكن أن يضرب كرائمَ الإبل. فقد علمته تقاليد قبيلته أن العربي الكريمَ لا يضرب وجنةَ فرسٍ ولا خدود ناقة، فذلك خلقٌ من أخلاق لئام الرعاة.
غطت رائحةُ غبارِ المراح المكان، وارتفعت الضوضاء، فخرجت نساء الحي مُتلفعاتٍ بخُمُرهنَّ يرقبْنَ مشهد الجنود يضربون الإبل.
تقدمت فتاةٌ تسحب ذيلها فزعةً وقالت لتِربها الواقفةِ بجنبها:
– جنودٌ يضربون إبل العرب، ويفرقون بين الفصيل وأمه؟! ماذا تركوا لسفلة الرعاء؟
نزعت صديقتها يدها من يدها وقالت بصوت متهدج:
– تعاليْ، ما داموا يضربون إبل العرب، فلا مروءة تمنعهم من ضرب النساء!
وارتفعت أصوات رغاء الإبل وحنينها، مختلطةً بأصوات صبيان يلعبون في طرف الحي غير شاعرين بما يجري.
وبعد ساعة هدأت الأصوات، وكانت مجموعة من العسكر قد نجحت في عزل بعض الإبل عن بعض. عزلتْ فصلانا عن أماتهن، وفحلا عن قطيعه، ونوقا كثيرة عن صويحباتهن. وسط الهرج كانت صيدحُ أعلا النوق رغاءً وحنيناً وصخبا.
فصلوا عنها حُوارَها. فقد كان محمد قد وهبه لابن عمه الصغير -أخي خطيبته- هديةً، وبذا فقد أصبح الفصيلُ قطرياً، وبقيتْ صيدحُ في الجانب الغربي من مضارب القبيلة.
لف الظلامُ المكان، وهدأت الأصوات، إلا من حنينٍ شجيٍ آتٍ من جهة صيدح وهي تواصل حنينها شوقا إلى فصيلها. تتجاوب معها تأوهات محمد، وهو ساهر يفكر في بنت عمه التي لا تبعد عنه أكثر من أميال |
استجمع محمدُ قواه وهو يعزي نفسه بلقيا بنتِ عمه ليلة الغد، ولم يشأ أن يرهق ذهنه بفهم ما لا يستطيع فهمه… فلن يمكنه فهم سبب يُفرّق بين إبل أهله، ويفصل بين الحِيرانِ وأمّاتهن.
عزى نفسه متذكرا لحظة اللقاء بمحبوبته ليلة الغد، ثم وقف وقال للعسكري:
– سأمشي مع الإبل التي ستعبر إلى قطر.
ضحك العسكري ضحكةً منكرة وقال:
– أنت سعودي!
لم يفهم محمد مرمى العسكري، ولا فهم دلالة "سعودة" تفرق بينه وبين محبوبته. فلا توجد سدود ولا قيود في الدنيا ترسم خطا بينه وبين بنت عمه. فقال قاصدا إسكات العسكري إلى الأبد:
– أنا ذاهب لبيت عمي، ولخطبة بنت عمي!
– قلت لك بنت عمك قطرية، ما يصير تروح لها، أنت سعودي!
شعر محمد بأنه يكلم أعجميا هبط تواً من بلاد بعيدة.
انتفض محمد كأن ثعبانا لسعه، متوجها إلى بيته لأخذ سلاحه، فاعترضته أمه وأمسكته وهي تصيح:
– أقسمتُ أن تتركهم.
لا يذكر محمد ما حدث بعد ذلك، كل ما يذكر أن أمه اقتربت من العسكري قائلة:
– سيعلم الشيوخ بما فعلتم، وأنكم ضربتم إبل العرب… وفرقتم بين الفصيل وأمه.
التفت إليها العسكري النحيل وقال وهو يسوق ناقة دون أن يلتفت جهتها:
– كل هذا بأمر الشيوخ!
ولّت العجوز مدبرةً، وقالت بصوت منخفض:
– الشيوخ يقول! الشيوخ! الشيوخ!
لف الظلامُ المكان، وهدأت الأصوات، إلا من حنينٍ شجيٍ آتٍ من جهة صيدح وهي تواصل حنينها شوقا إلى فصيلها. تتجاوب معها تأوهات محمد، وهو ساهر يفكر في بنت عمه التي لا تبعد عنه أكثر من أميال.
ظل يتقلب في فراشه وسؤال واحد يحرق كبدَه: ماذا ستقول بنت عمه عن رجولته إذا كان عاجزا عن الوصول إليها ليلة الخطبة؟
وسكنت تأوهات محمد، وجاءت أمه تركض، ووضعت أذنها على صدره، ثم أطلقت صرخة مزقت سكون الحي الصغير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.