الشعر العربي زاخر بأساطير العشق، منها ما هو حقيقة، ومنها ما هو نسج خيال. هناك قصة من أجمل القصص التي رويت شعرًا وعاشت معنا طويلاً -رغم قصر أبياتها- لدرجة أننا تمنينا لو كانت حقيقة. تلك الأسطورة الشعرية أروع أبيات الغزل التي صيغت في العصر الأموي، مما جادت به قريحة الشاعر الزاهد المتعبدِ: ربيعة بن عامر الدرامي، والمُلقب بالمسكين.
من منا لم يعش مع تلك الأبيات طويلاً:
قل للمليحة في الخمار الأسود ** ماذا فعلت بناسك متعبدِ
قد كان شمر للصلاة ثيابه ** حتى وقفت له بباب المسجدِ
ردي عليه صلاته وصيامه ** لا تقتليه بحق دين محمدِ
أقلع المسكين عن الإبحار في بحور الشعر العربي منذ ذلك اليوم، وظل شراع تلك الأبيات مرفوعًا إلى يومنا هذا. نسينا أو تناسينا رمزية القصة، وعاشت في دواخلنا أسطورة العابد الذي فتنته ذات الخمارِ الأسود. |
حتى بعدما صرنا نعلم القصة الحقيقة وراء كتابة تلك الأبيات؛ نظل مُحلقين في سماواتها التي ما زادت عن ثلاث سماوات. تُرى من تكون تلك المليحة التي جردت الزاهد من زهده، وخلعت عن الراهب ثوب الرُهبان؟ رغم علمنا بخبر تلك الأبيات وأنها قيلت كدعاية للخُمر السوداء التي كانت لا تلقى رواجًا لدى نساء المدينة؛ إلا أننا وحتى يومنا هذا مازلنا محدقين بتلك الرواية الخيالية، ولم تغب عن تصورنا تلك "المليحة".
ماذا لو كانت القصة حقيقة؟ وماذا لو كانت تلك "المليحة" على نفس الدرجة من الشاعرية والبلاغة؟ تُرى ما قد يكون ردها؟ ربما كانت لتقول:
قُل للناسك المتعبدِ
من بعد زهدك ما لي غير الأسودِ
ما إن رأيتك للصلاة مشمرًا
حتى هرعت صوب المسجدِ
ما جئت أرجو فتنتك
لكن جوارًا في رحاب المسجدِ
أقلع المسكين عن الإبحار في بحور الشعر العربي منذ ذلك اليوم، وظل شراع تلك الأبيات مرفوعًا إلى يومنا هذا. نسينا أو تناسينا رمزية القصة، وعاشت في دواخلنا أسطورة العابد الذي فتنته ذات الخمارِ الأسود. ولما طال الحديث عن تلك المليحة؛ حُق لها أن تخرج عن صمتها، وتخبرنا أنها لم تك ترجو للناسك فتنة، لكنها مثله جاءت لتتعبد. إن كان لتلك القصة أن تكتمل فلتكتمل بخالدية كما بدأت، ولا سرمدية لهذان العاشقان سوى أن يجمعهما الزهد؛ فيفرقهما الموت، ليجمعهما في رحاب الجنان من جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.