وكذلك الأمة تبدو حياتها الخُلُقية والفكرية عَكِرةً في عصر التعيُّر وأخوَفُ ما يُخافُ من هذا الاعتكار على الأمة إذا لم يكن قد دخِلها أثناء عصر ركودها وقبل عصر التغيُّرِ عناصر جديدة مقوية؛ لم تأخذ منها طِبَاعُ نفوس العناصر القديمة كُلَّ مأخذٍ فيُخشى في هذه الحالة أن تصير نهضتها نهضةً مُفتَعَلَةً محدودةً، وقد تكون فيها مظاهر جليلة فلا يمنع ذلك من اندثارها كما حدث لنهضة اليونان في أواخر الحضارة الإغريقية ومثل نهضة الدولة البيزنطية في أواخر العهد الروماني الإغريقي.
أثر الاضطراب الخُلُقي في انحطاط الأمم سبب من أسباب انحطاطها أو عاملٌ من عِدَّة عوامل. وإنّه كان ليكون أشبه بالنبيذ الذي يُعطى للشيخ الهَرِمِ وهو يحتضر كي يُقوّيه ويُطيل حياته. |
أمّا إذا كانت الأمة قد دخلتها عناصر جديدة قوية فإن ما يصيبها من الاعتكار بسبب الاضطراب لا يُخاف منه كُلَّ الخوف بل يكون مصيره الاستقرار. ومثل ذلك الأمم الأوروبية في عصر النهضة فإنّ ما دخلها من الآراء الجديدة أوْجَدَ انقلاباً واضطراباً كبيراً في حياتها الفكرية والخُلُقيّة والفنيّة. ولكن الأمم الأوروبية كانت قد دخلتها العناصر الأوتونية ولم تكن تلك العناصر قد أوهنتها طباع الوهن الفكري والخُلُقي الذي انتاب الدولة الرومانية في أواخر أيامها ومن أجل ذلك أمكنها أن تصمد لذلك الاضطراب الخُلُقي والفكري حتى وجد سبيله للاستقرار.
ولكن لنفترض أنّ هذا الاضطراب قد حدث قبل دخول الأوتون أو لِنَقُل أنه جاء متأخراً بعد أن ضَعُفَت العناصر الأوتونية أو تشبّعت بطبائع الوهن الخُلُقي والنفسي الذي انتاب الرومان في آخر حياتهم. ماذا كان سيكون أثر الاضطراب الخُلُقي؟ إنّه كان لِيَكون عامِلاً على الفناء والهلاك لا نذيراً بالرُّقيِّ. وهنا نستنتج أثر الاضطراب الخُلُقي في انحطاط الأمم فنقول أنه سبب من أسباب انحطاطها أو عاملٌ من عِدَّة عوامل. وإنّه كان ليكون أشبه بالنبيذ الذي يُعطى للشيخ الهَرِمِ وهو يحتضر كي يُقوّيه ويُطيل حياته فلا يزيدُهُ إلاّ آلاماً واحتضاراً. لأن الأمة إذا تعاقبت وتقلّبت عليها العصور وهي مختلَة النُّظُمِ تمكّنت منها عوامل الضعف النفسي وأنهكتها حتى تَكْرَهَ النّظر إلى نفسها في مرآة العقل وتصير مثل الرجل من العامّة الذي يُؤثِرُ أن يسلّم أمره ويَتَرَقّبَ القضاء ليحسم أمر عَلَلِهِ على أن يتعاطى الدواء.
كثيراً ما يكون تقدُّم الأمم والنهضة الفكرية والفنية بل وحتى الاقتصادية أو السياسية في هذه الأوساط التي تعرضنا لها أشبه بتقدُّم سيارة في بركة وحل أو تقدّم المرء في أحياء شعبية قديمة مسدودة لا منفذ له منها. |
ولعلَّ القارئ قد وجد بين العامّة مَن يُسيءُ الظنَّ بالطبّ والأطباء ومَن يرى الصحة والشفاء في تجاهل الداء. فإذا أضَفْتَ إلى هذا الضعف النفسي ما يحدث من الاضطراب الخُلُقي النّاشئ من عصر تغيُّرٍ تَجِيءُ فيه آراء جديدة وحياة جديدة وتتفكّكُ فيه الروادع الخُلُقيّة القديمة أو التقليدية كانت الفوضى الخُلُقية أعظم. وإذا أضَفْتَ إلى هذين العاملين عاملاً ثالثاً وهو تقليل الضغط وازدياد الحرية وما يأتي مع الحرية الجديدة عادةً من شطط في الخُلُق والفكر كان الاضطراب الخُلُقي أهول. وإذا أضَفْتَ عاملاً رابعاً وهو ازدحام السكّان والتقاتل على المعاش وما ينشأ عنه من نزاع واستباحة الرذائل والشرور كانت الفوضى الخُلُقية أتمَّ وأحطّ لاجتماع هذه الأسباب الأربعة.
وكثيراً ما يكون تقدُّم الأمم والنهضة الفكرية والفنية بل وحتى الاقتصادية أو السياسية في هذه الأوساط التي تعرضنا لها أشبه بتقدُّم سيارة في بركة وحل أو تقدّم المرء في أحياء شعبية قديمة مسدودة لا منفذ له منها. ولعلّ أكبر عوامل الخيبة هو عدم المبالاة بتلك الحال فيزداد الطين بلّة. وقد تنعدم المبالاة بالأمور الفكرية والفنية كما تنعدم المبالاة عند مشاهدي حوادث الإجرام من قتل وسرقة وفساد… في أمثال هذه الأوساط التي يتهرب الناس فيها من المبالاة ويُمسِي المجال مجالَ احتيال وخداع ورياء وتتغلّبُ هذه الصفات على النفوس وتأخذُ منها كُلَّ مأخذ حتى تَصير كالجدار الذي يَسُدُّ الحيَّ الذي لا منفذ منه فيُثبّطُ ويَعُوقُ كُلَّ نهضة..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.