ظلت العلاقات السودانية المصرية ولعقود طويلة من الزمن في حالة توتر دائم خاصة بعد وصول نظام الانقاذ للحكم في السودان قبل حوالي 28 عاما. لكن شهد العام الحالي تدهور مريع لهذه العلاقات لدرجة اتهام البشير علانية للنظام المصري بدعم حركات التمرد المختلفة في السودان وتهديد أمنه واستقراره، ومن قبلها اتهام وزير الخارجية إبراهيم غندور لمصر بتأييد قرار تمديد العقوبات المفروضة على السودان من قبل مجلس الأمن التي تتعلق بشكل أساسي بحظر بيع الأسلحة للسودان.
بهذه اللهجة الحادة ضد مصر كسب النظام السوداني بعض التأييد الشعبي من المواطنين الغير سعيدين بتعامل النظام المصري مع السودان أو حتى الخطاب المستفز والمتعالي من الإعلام المصري تجاه السودان. ويظل السؤال الذي يفرض نفسه هو ما سر هذا التحول في الخطاب السوداني الرسمي لدرجة تجعل رأس الدولة يصرح بهذا الشكل العلني ضد مصر رغم التزامه لسنوات طويلة بلهجة رصينة ومتحفظة رغم كل التوتر. فقد ظل الخطاب الرسمي يسمي مصر بأخت بلادي والبعد الاستراتيجي للسودان.
مع وصول دونالد ترمب للرئاسة في أمريكا فإن البشير ونظامه يحتاجون أن يظهروا دعم الشعب لهم للعبور إلى بر الأمان واستعادة العلاقات من الغرب. |
تاريخيا، عادى نظام الرئيس المخلوع مبارك نظام الإنقاذ منذ يومه الأول بسبب الخلفية الإسلامية للنظام وكذلك قربه من جماعة الإخوان المسلمين المغضوب عليها في مصر خلال تلك الحقبة. تلى ذلك اتهام مصر للنظام السوداني بالضلوع في محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا وهو ما أكده عراب نظام الانقاذ حسن الترابي قبل وفاته في شهادته على العصر مع قناة الجزيرة. رد مصر كان قويا باجتياح عسكري واحتلال مثلث حلايب وشلاتين الحدودي وتأكيدِ السيطرة على المكان بإبراز الوجود المصري إعلامياً وإدارياً وخدمياً.
السودان لم يقوم بأي رد فعل إزاء التحرك المصري سوى تصريحات مسئوليه بأن السودان سيلجأ للتحكيم الدولي لإثبات حقه التاريخي في المنطقة، ولكن مع الاستمرار في التأكيد بأن المثلث المذكور هو منطقة تكامل بين البلدين وليست منطقة نزاع. أيضا وفرت مصر مأوى للتجمع الوطني الديموقراطي المعارض الذي تم تأسيسه من قبل 13 من حزبا سياسياً و56 نقابة واتحادا ليكون رأس الحربة في مقاومة نظام الإنقاذ.
النظام السوداني ورغم كل هذا التوتر إلا أنه لم يصعد المواجهة من مصر خصوصا بعد العزلة الدولية التي فرضت عليه ووضعه في قائمة الدول الراعية للإرهاب وتوتر علاقاته مع أغلب الدول العربية في أعقاب الاجتياح العراقي للكويت، وكذلك استنفار الدولة ومواردها في حرب الجنوب. كل ذلك جعل النظام السوداني يرى أن التصعيد مع مصر لن يكون قرارا حكيما ولن يجلب للسودان إلا مزيدا من الاضطرابات والتعقيدات. وهو ما جعل السودان يوقع اتفاق الحريات الأربع مصر ثم يلتزم بذلك الاتفاق من طرف واحد فقط.
في السنوات القليلة الماضية شهدت علاقات البلدين تقلبات مضطردة بداية بالإطاحة بنظام مبارك ووصول الإخوان المسلمين لسدة الحكم ثم وقوف السودان في صف أثيوبيا في قضية سد النهضة ثم الإطاحة بنظام الإخوان في مصر، تلاه انضمام السودان لتحالف عاصفة الحزم في اليمن وتقاربه مع السعودية في وقت توترت فيه علاقة مصر مع السعودية بسبب قضية جزيرتي تيران وصنافير، ومؤخرا وقف السودان استيراد المنتجات الزراعية من مصر لأسباب صحية.
نظام البشير نظام شمولي لا يهمه مصلحة السودان بقدر ما يهمه مصلحة الحزب والتنظيم بدليل سكوته عن احتلال مصر لأراضي مثلث حلايب وشلاتين لثلاث عقود. |
كل ذلك أشعل فتيل التصريحات الإعلامية والشعبية بين البلدين جعل مصر من أقل البلاد محبة في قلب السودانيين. وللسودانيين الحق في ذلك بعد اتهام الإعلام المصري للسودانيين بأنهم شعب بلا حضارة وأنهم تاريخيا تابعين لمصر، وهو خطاب جاهل لم تتصدى له الدولة في مصر بل أيدته بعد تصريحات وزير خارجيتها سامح شكري ضد السودان.
نعود للسؤال الذي طرحناه في البداية عن سبب التغير في الخطاب الرسمي السوداني بداية بمراجعة اتفاق الحريات الأربع وخروج البشير ليتهم مصر علانية بدعم التمرد في السودان، وأيضا تأجيج جنوب السودان عسكريا ضد نظام الإنقاذ بل وأكد البشير أن مصر طوال تاريخها كان وما زالت تتآمر ضد السودان.
نظام البشير نظام شمولي لا يهمه مصلحة السودان بقدر ما يهمه مصلحة الحزب والتنظيم بدليل سكوته عن احتلال مصر لأراضي مثلث حلايب وشلاتين لثلاث عقود. كذلك سكوته إلى اليوم عن احتلال أثيوبيا لمنطقة الفشقة في شرق السودان منذ بدايات التسعينات الميلادية. كذلك غض السودان الطرف عن عدم التزام مصر بأي من بنود الحريات الأربع رغم التزام السودان الكامل بها. وأخيرا لم يتخذ السودان أي إجراء ضد دعم مصر لحركات التمرد في حرب دارفور المشتعلة منذ عام 2003 والتي أدت إلى جعل البشير الرئيس الوحيد في العالم المطلوب لمحكمة الجنيات الدولية.
لكن أراد النظام السوداني بتحركه الأخير بلعب بطاقة الوطنية لتعبئة الشعب خلف البشير في المرحلة المقبلة. فالشعب السوداني أظهر زهدا في التفاعل مع أغلب الاحداث السياسة مؤخرا بداية بمقاطعة شعبية الانتخابات 2015 ثم عدم اهتمام بما سمي بالحوار الوطني الذي عقد لمدة تزيد عن 3 أعوام تكللت بتشكيل الحكومة الأكبر في تاريخ البلاد.
ظل السودانيين ولسنوات في حالة غضب من رئيسهم بسبب ضعف تعاطيه مع قضايا الأراضي السودانية المحتلة شمالا وشرقا وكذلك مع توسع رقع الحرب من دارفور إلى كردفان والنيل الأزرق. |
النظام السودان يحتاج لاصطفاف شعبي لمساعدته في المنعطف التاريخي الذي يمر به في محاولة الخروج من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات المفروضة عليه. سياسيا تحرك النظام السوداني لتحقيق ذلك الهدف مدعوما بالسعودية التي تم كسب ودها بعد المشاركة في حرب اليمن وإرسال قوات سودانية بشكل مكثف.
أيضا بدأ السودان التحرك لإيقاف تدفق المهاجرين الغير شرعيين عبر أراضيه إلى ليبيا ومنها إلى أوروبا. ومع وصول دونالد ترمب للرئاسة في أمريكا فإن البشير ونظامه يحتاجون أن يظهروا دعم الشعب لهم للعبور إلى بر الأمان واستعادة العلاقات من الغرب. وأيضا هناك إرهاصات عديدة تتحدث عن اتجاه البرلمان لتعديل دستور 2005 مما قد يسمح للبشير بالترشح للرئاسة في عام 2020.
ظل السودانيين ولسنوات في حالة غضب من رئيسهم بسبب ضعف تعاطيه مع قضايا الأراضي السودانية المحتلة شمالا وشرقا وكذلك مع توسع رقع الحرب من دارفور إلى كردفان والنيل الأزرق، أضف لذلك الفشل الاقتصادي والتضييق على الحريات واعتقال السياسيين والنشطاء وقتل المتظاهرين كما حدث في عام 2013. هل ينجح البشير في مسعاه بتوحيد السودانيين خلفه مستغلا حالة الحنق والغضب الشعبي ضد مصر أم سيكون السودانيون واعين للعبة الوطنية التي تدار عليهم؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.