كمية المعرفة الهائلة، جعلت المرء يقضي جُل عمره باحثاً عمّا يريد، بين هذا الكم المهول مِنْ المعلوماتِ والأفكار، مِمَّا صنع حالة تشوش معرفي، خلقت انفصاماً حاداً بين الإنسان وذاته. |
ربما قديماً كانت العقول تُعاني مِنْ ندرةِ المعلومة، وتلك مشكلة ما زالت تُعاني منها بعض العقول حتّى اليوم، ولكن في وجهةِ نظري أنًّ العقل البشري، صار اليوم أمام مشكلة تعدّ أهم وأخطر مِنْ الأولى، وهي الكمّ الهائل مِنْ تدفقِ المعلومات، في عالمٍ مفتوح أصبح كل شيء فيه متاح ومتداول ومُتغير، في ظلِ غياب تقنين نشر المعلومة، ومراعاة حقوق الملكية، وعدم معرفة الصح مِنْ الخطأ من كل ذلك.
السؤال الذي يرح نفسه: مَنْ منَّا لا يزال يستفتي عقله عمّا يريد فعله وتركه؟ مَنْ منَّا لا يزال يستخدم عقله حول الإيمان ببعض المُسَلَّمات والمبادئ والأراء الخلافية؟ حينما أقول يستفتي عقله، أنا لا أعني بذلك عقله المؤدلج، أو المؤطر، أو العقل بكيفيته المركبة، مِنْ خليط الأصوات التي يسمعها كل يوم، ولا أعني بذلك العقل المادي، الذي أصبح يرى نفسه حاكماً وسلطاناً مطلقاً على كل شيء، بل أعني بأنَّ يستفتي صوت عقله الحقيقي، الصوت الفطري السليم، الصوت الإلهي الذي فطره الله عليه في أول يوم.
بعيداً ذهبت بنا الثورة المعلوماتية، وحركات الاستقطاب الدينية والفكري والسياسي، نحو تشكيل العقول الاتكالية، نحو الحلول الجاهزة، وإغفال العقل عن التفكيرِ والإبداع، مما سهل ظهور حالة اغتراب وعزلة بين الوظائف الأساسية للعقل، والوسط المحيط به.
العقل الفطري السليم، لا تليق به حياة الدراويش، ولا تليق به التبعية العمياء، حتّى أنَّها لا تصلح له الأفكار الجاهزة، ما لم يُبدي فيها رأيه ونقده. |
في نظري أن رجل الأدغال في الغاباتِ الاستوائية، يعيش حالة اِنسجام مع ذاته، أكثر مِنْ تلك الحالة الّتي يعيشها رجل العالم الحديث، والمدن المتطورة والتكنولوجيا الحديثة، والسبب أن كمية المعرفة الهائلة، جعلت المرء يقضي جُل عمره باحثاً عمّا يريد، بين هذا الكم المهول مِنْ المعلوماتِ والأفكار، مِمَّا صنع حالة تشوش معرفي، خلقت انفصاماً حاداً بين الإنسان وذاته، جعلت العقل البشري لا يستقي المعرفة الحقيقية مِنْ منابعها، أو يُجهد نفسه في سبر أغوار الفكرة ومقاصدها، فلا حرج أن تجد معدلات مرتفعة على محرك البحث Google وصلت إلى ملايين المرات، لأسئلة ساذجة أغفلت العقل عن الدّور المنوط به نحو ما يريد، مِنْ بين تلك الأسئلة "مَنْ أنا؟ ماذا أريد؟ ما هي الحياة؟ كيف أفكر؟ كيف أخطط؟ إلخ.. وفي المقابل لا حرج أيضاً أن ترى الآلاف مِنْ البشر تموت، في سبيلِ رجل يدعي أنّه مِنْ نسل آل البيت، وأخر ينشد الخلافة الإسلامية على جثثِ الأطفال والنساء.
بمعنى أنَّ تُغفل صوت العقل الذي بداخلك، عما تود فعله وتركه، يعني ذلك أنَّك أسلمت عقلك لكل ما يهرف ويعرف به الآخرون، عندها فأنت تحمل عقلاً مُسيّرا لا مُخيّرا، ولو أنك أصخت السمع جيداً، لذلك الصوت النّقي، الذي يهمسك فيك، لوجدت أنّه الصوت الإلهي، الذي يُبدد عتمة ضجيج الأصوات، ولعرفت المعنى الصحيح لقوله ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم﴾، فالعقل الفطري السليم، لا تليق به حياة الدراويش، ولا تليق به التبعية العمياء، حتّى أنَّها لا تصلح له الأفكار الجاهزة، ما لم يُبدي فيها رأيه ونقده.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.