وأنت تقرأ السيرة الذاتية لجمال ولد عباس -الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني- وبعد أن تعرف أنّ الرجل متخرج من جامعة طب بألمانيا تخصص أمراض الصدر والحساسية ومكافحة داء السل سنة 1964 (تذكروا هذا التاريخ جيدا)، كما أنه عضو في عدة منظمات طبية وطنية وعربية ودولية، ثم ترى مساره السياسي وهو يتدرج في مختلف المناصب السياسية بالدولة الجزائرية إلى أن أصبح وزيرا في عدة وزارات، بالإضافة إلى أنه يتقن خمس لغات (هذه المعلومات حسب الموقع الرسمي لحزب جبهة التحرير الوطني)، تصيبك الدهشة كيف لمن يكون له كل ذلك الرصيد ويفترض به أن يكون مثقفا وسياسيا أن تصدر عنه مثل تلك التصريحات التي لا محل لها من الإعراب.
إلا أنه سرعان ما تتدارك وتسترجع حكمة الأولين وتعرف أن الأجداد ما تركوا لنا ذلك المثل إلا لأنهم كانوا يعرفون جمال ولد عباس شخصيا، فلأجله وخصيصا له قالوا: "أعطيهولي فاهم والله لا قرا.."، هنا فقط ترتاح لأنك عرفت سبب الخلل؛ فتصريحات ولد عباس لم تنبع من شخص ذي مستوى علمي ضحل؛ بل من شخص -وبالرغم من كل تحصيله العلمي- لم يستطع فهم الواقع الاجتماعي والسياسي المحيط بنا، وما أكثرهم أشباهه في واقعنا اليوم.
يقول ولد عباس أن حزبه سيحكم البلاد لمئة سنة قادمة، وهنا يظهر بجلاء التخطيط بعيد المدى الذي يتخطى ما تعرفه البشرية من نظريات في استشراف المستقبل، وما نراه جراء سياسة حزبه دليل واضح على تطابق الحزب والدولة. |
إنّ أول ما يلفت الانتباه في حملته الانتخابية هو البرنامج السياسي الثري الذي يقدمه في مختلف المحطات، وإذا كنا لحد الآن لم نستطع فهم شيء من برنامجه (أو لنقل أننا لم نستطع حتى إيجاده)، أقول لا يجب أن نقلق فالبرنامج لا يستطيع فهمه ورؤيته إلا من يعيشون في البعد الذي يعيش فيه جمال ولد عباس وأشباهه؛ إلا أن المسؤولية تبقى دائما على عاتقنا جميعا، فنحن لم نبذل جهدا في فهم ملخص الرجل عن برنامج حزبه، فهو الذي حاول مرارا وتكرارا التبسيط ولكن ما عساه يفعل حتى تفهم عقولنا القاصرة.
ألم يقل لنا الرجل أن برنامجهم الانتخابي من برامج فخامة رئيس الجمهورية، وكيف لنا نحن الذين لم نر فخامته منذ أكثر من ثلاث سنوات أن نبصر أو نفهم برنامجه، ببساطة البرنامج يأخذ صفات صاحبه كلاهما لا يُرى. ويؤكد لنا في كل مرة أنه مجاهد وفرنسا حكمت عليه بالإعدام (طبيعي جاهد وأُستشهد في نفس السنوات التي كان يدرس بها في ألمانيا حتى تخرجه في 1964)، فهل يوجد في رأيكم برنامج أكبر من هذا، فها هو الحزب العتيد يقدم لنا موتى عذرا أقصد شهداء لكي يكلموننا ويتحركون فيما بيننا ويأكلون من طعامنا دون أي تكليف، فيا لنا من شعب ناكر للجميل.
وللأمانة فالرجل قد دافع عن حزبه إلى أبعد الحدود وضد كل من سولت له نفسه أن يمس كرامة حزبه كائنا من كان، فقد صرح أن حزبه هو الدولة والدولة هي حزبه، فأين لنا أن نجد صِدقا كالذي نسمعه من هذا الشهيد الذي حرر الوطن، فهو على عادته وبكل بساطة يقول لنا أن "اللعاب حميدة والرشام حميدة"؛ نعم كونه طبيب فهو يخاف علينا وعلى صحتنا فيقول لنا لا ترهقوا أنفسكم، مهما فعلتم فإن الانتخابات محسومة لصالحنا فنحن الدولة، والديمقراطية في الجزائر اسمها "الأفلان" أما الباقي فعرائس قراقوز ترقص حتى تُخرج لنا الحفلة في أبهى حلة، ويضيف على ذلك في مقام آخر بأن حزبه سيحكم البلاد لمئة سنة قادمة، وهنا يظهر بجلاء التخطيط بعيد المدى الذي يتخطى ما تعرفه البشرية من نظريات في استشراف المستقبل، فتوقعه لا يقبل النقاش وما نراه في حياتنا اليومية من معاناة وآلام المواطنين جراء سياستهم -سياسة الحزب- دليل واضح على تطابق الحزب والدولة.
ثم يواصل الرجل في تبيان البعد التاريخي لحزبه ويذكرنا بجذورهم التي تضرب في أعماق التاريخ، فلا يمكن لولد عباس أن يثير دهشتنا أكثر مما فعل اللهم إلا إذا أخبرنا أنّ الأميرة الفينيقية عليسة ديدون "مؤسسة قرطاج في ما قبل الميلاد" مِلك الأفلان؛ فقد جعل قبلها بوتفليقة مِلك الأفلان، الثورة مِلك الأفلان، الفاتح من نوفمبر مِلك الأفلان، الخامس من جويلية مِلك الأفلان، المجاهدين والشهداء مِلك الأفلان، الاستقلال مِلك الأفلان، كل إنجازات الدولة منذ تأسيسها إلى اليوم مِلك الأفلان حتى عقبة ابن نافع "بونافع كما نَطقها ولد عباس" هو مِلك الأفلان، ما نخافه هو أن يخرج علينا قائلا أن أحد الأنبياء أو الرسل وما هو إلا رئيس شرفي لحزبه. في الأخير لا يسعنا إلا أن نشكر ولد عباس على حملته الانتخابية التي ساهمت في الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات والتي حقق من خلالها ما لم تحققه أحزاب المعارضة مجتمعة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.