وضع الفيلسوف المسلم "على عزت بيجوفيتش" بعض الخطوط العريضة لفهم الإسلام من منظوره الخاص، منها وأهمها، أن الإسلام وحدة ثنائية القطب، فهو ليس بالدين الروحاني فقط، ولا بالفكر المادي فقط، بل هو نتاج الترابط بين الفكرتين، بمعنى أدق.. الإسلام نتاج المزج بين الفكرتين، حتى أنني أحب تسميتها "المادّروحية". مشكلة هذه الفكرة ليست في صعوبة تنفيذها، ولكن الحقيقة أن المشكلة في فهمها من الأساس.. وما أدى إلى استحالة تطبيقها. ولا يخفى عليكم، أعتبر هذه الفكرة، هي محور الإسلام وصلبه، وما يجعل الإسلام كدين يشع تميزًا دونًا عن غيره من الأفكار والأيدولوجيات.
فبعد أن يتخرج الفتى من جامعته، محملًا بعلم ومهارات اكتسبها على مدار السنين، يذهب ليتقدم إلى الوظيفة التي لطالما حلم بها، فيجد أن كل الوظائف والمجالات هي لشركات "Multinational" يحكمها أشخاص لا من دينه ولا وطنه، يضعون رؤى وأهداف لا تمط لأفكار الشاب بصلة، يطلبون منه أن يكون ترس في ماكينة هي بالأساس ليست ماكينته، ولا ينبغي له أن يكون هنا، ومن الوارد جدًا أن تكون الماكينة أصلًا تصنّع لكى تخدم هدف ضد مبادئ هذا الشخص بالكلية، أو لدعم أفكار وكيانات تعلن صراحًة عدائها الواضح لما يعتنقه صاحبنا! .. مطلوب منه فقط "أعمل".. ولا تسأل عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم! .. سنعطيك ما تريد من الراتب، ما يجعلك تعيش كأثرياء قومك.. فقط نفّذ ما هو مطلوب منك!
الحل: إعطاء الشباب المسلم فرص عمل في شركات ذات قيم إسلامية، تنافس تلك التي يحصل عليها في الشركات الأخرى.. وذلك عن طريق الشروع في إنشاء المشاريع الصغيرة والشركات الناشئة في كافة المجالات، تحت مظلة الأفكار الإسلامية. |
هنا تكمن المشكلة.. صاحبنا المسلم، مطلوب منه بحكم المبدأ الذى ذكرناه أول الكلام، أن يكون متدينًا بالمفهوم المسيحي، وعاملًا بالمفهوم اليهودي.. أن يكون هذا وذاك في آن واحد.. ولو أسقطنا هذه الفكرة على النموذج المذكور لصاحبنا، فسنجد تعارض كبير، بين واقعه، وما هو مفترض أن يكون واقعه.. يجب أن يعمل كما يعمل غيره من البشر حتى يكتسب قوت يومه، لكن ضمن ضوابط ومعايير وأفكار معينة، وضعها الإسلام وأمر بها. هنا تكمن ثنائية القطب.. أنت تفعل كل ما هو بشرى مادى، لكن ضمن قولبة الروحانية الإسلامية، أن كل عمل مادى، له صلة روحيّة وغاية أسمى من تلك التي يراها الناس.. أسمى من الراتب الذى تحصل عليه في المقابل.. راتب أخر، من نوع خاص.. ذلك أدّى إلى أن غالب شباب الأمة فقدوا مبدأ الازدواجية الإسلامية، وأصبح واقعهم منفصل تمامًا عن دينهم، مما أكسب الدين الإسلامي طابع مسيحي، روحاني بحت، وطبقت "اعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" بحذافيرها، ما أدى إلى افتقاد الإسلام لمن يحميه ويمثله ميدانيًا.
الاعتراض ليس على العمل في حد ذاته، بل على الأهداف الكبرى وراء تلك الشركات.. والمجهود المبذول من الشباب المسلم في تطوير هذه المؤسسات، في ظل الاحتياج الشديد لمن يعمل تحت مبادئ الإسلام ورايته، ليستعيد مفقوده العزيز، الجانب المادي المنهار.. واعلم يا صديقي.. أن لا تمكين مع الدعاء فقط، بل التمكين بالعمل والدعاء.. على مدى القرون السابقة، اتخذ العالم الإسلامي الجانب الأسهل من المعادلة، وهو الارتكان إلى الجانب الثقافي الفكري، وترك الجانب الحضاري المادي، أدى ذلك إلى انسحاب الإسلام من الركب الحضاري، وترك الساحة لأيدولوجيات أخرى، والقاعدة تقول.. الأقوى ماديًا، يفرض أفكاره.. وبالتالي، يمحَى كل ما هو إسلامي بالتدريج، ينتزع هؤلاء كل القيم الإسلامية من المسلمين، حتى يصبح الإسلام ما هو إلا دين للتبرك، لا عزة فيه، تدر خدك الأيسر لمن صفعك على الأيمن!
دعنا من البكائيات، لنفكر قليلًا في الحلول العملية.. لن يعود الإسلام لرونقه، إلا عندما يثبت أنه دين واقعى، ليس من الأفكار ذوات الزمن الواحد.. وعليه، فالإسلام يحتاج إلى كل تلك الأعمال المادية، ولكن تحت لوائه.. أن تتسم كل الأفعال الحضارية بما يشير إلى إسلاميتها..
لنضرب مثال يمثل هذه الفكرة وبشدة.. اللاعب المصري محمد صلاح، لاعب نادى روما الإيطالي، ذاع سيطه في إيطاليا وأوروبا بشكل عام في السنين الأخيرة.. محمد بعد كل هدف يسجله، يسجد إلى الله أمام الكاميرات ليراه العالم أجمع.. كما أنه يحمل دائما مصحفه في سفره، ويصدره للصحافة والمصورين عند التقاط الصور..
محمد يظهر للناس إسلاميته، ليكون سفيرًا لدينه، يقدم كونه مسلم على كونه لاعب كرة.. بالأحرى.. يقدم إسلامه على أنه السبب وراء نجاحه.. ذلك مربط الفرس.. تمت قولبة الإسلام على أنه دين همجي فاشي، لا يصدر غير الرعاع الهمجيين، هل تظن بأن الرد هو الرد الفكري؟ .. لا والله! .. الرد لا يكون إلا بتصدير الأمثلة المعاكسة، من يعتنقون نفس الفكر، وفى نفس الوقت مبدعون بمجالاتهم.. ولكم في اليهود خير مثال.. ما من يهودي ناجح، إلا ويقدم يهوديته على أنها أول كلمة فى سطر تعريفه.. فخورًا بدينه، مشيرًا بشكل غير مباشر إلا أنه السبب وراء كل ذلك..
أعتقد بأن مثال محمد صلاح، هو أضعف الإيمان لما يجب أن يتم ويبذل في مرحلة السعي للتمكين، لإن ما يفعله محمد صلاح، يجب أن يفعله كل مسلم في كل المجالات، تقديم سمته الإسلامي كبداية لتعريفه.. وللحية والحجاب "الصحيح" دور في هذا.. ومنها استمدت فرضيتهما أساسها.. ولنا كلام أخر في هذا الشأن إن شاء الله.
إن أردت الدفاع عن دينك حقًا، جسده على نفسك أولًا، واجعل الناس يرون أنه صالح للتطبيق، لا كما يدعيه البعض.. كفانًا صراخًا، قد اشتكى العالم من ضجيجنا. |
ولكن ما هو الحل الأقوى؟
الحل الأعظم من وجهة نظري، هو إعطاء الشباب المسلم فرص عمل في شركات ذات قيم إسلامية، تنافس تلك التي يحصل عليها في الشركات الأخرى.. وذلك عن طريق الشروع في إنشاء المشاريع الصغيرة والشركات الناشئة في كافة المجالات، تحت مظلة الأفكار الإسلامية، على سبيل المثال.. هناك شركات ناشئة في الوطن العربي الأن بنفس المفهوم، هدفها تقديم منتج عادى كالذي تقدمه الشركات العالمية، ولكن ذو طابع إسلامي.. مثلا، استبدال المصطلحات الغربية التي لا تمثل ثقافتنا، بمصطلحات عربية أصيلة، وتصميمها بشكل معاصر يجعل الغربيين أنفسهم يطلبون اقتنائها.
ذلك يجعل الشاب المسلم، يعمل على ما يجب أن يعمل عليه، وهو تمثيل معتقده وتصحيح صورته أمام العالم، وفى نفس الوقت يكتسب من ذلك العمل ما يكفيه ليحيا حياة كريمة دون اللجوء إلى تلك الشركات البعيدة كل البعد عن أفكاره.
مع بداية التنفيذ، ومرور الوقت شيئًا فشيئًا.. ستبدأ القولبة التي وُضع فيها الإسلام بالتلاشي، ليظهر الإسلام بصورته الفعلية.. ويبدأ باستعادة مكانته ضمن سباق الحضارات، ويستعيد مرة أخرى قيمه التي تندثر يوميًا واحدة تلو الأخرى، ولا تجد من يدافع عنها غير الهري المعتاد، والشعارات المبتذلة. إن أردت الدفاع عن دينك حقًا، جسده على نفسك أولًا، واجعل الناس يرون أنه صالح للتطبيق، لا كما يدعيه البعض.. كفانًا صراخًا، قد اشتكى العالم من ضجيجنا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.