ذلك اليوم كان علامة فارقة في حياة العالم النابه، وكان فاصلا بين حياة مضت بإنجازاتها العلمية الباهرة، والمكانة الاجتماعية المرموقة حيث كان نجما عالميا وأيقونة يتسابق في الاحتفاء بها رؤساء وزعماء العالم، ورموزه الفكرية والسياسية والفنية، وكافة وسائل الإعلام آنذاك، وبين حياة لاحقة رأى فيها بلاده تنبذه وتتبرأ منه قبل أن يتبرأ منها، وما بدأ يتراءى له من حقيقة توجس الغرب من يهوديته.
لم تمض أيام قليلة حتى خطب وزير الإعلام الألماني جوزيف جوبلز في 10 مايو 1933 أمام عشرات الآلاف من الطلاب الذين احتشدوا أمام محرقة لكتب العلماء اليهود، ومن بينها أبحاث وأعمال أينشتاين. خطب جوبلز بنبرة حماسية معلنا "موت الفكر اليهودي، وانتهاء حقبة قديمة قد احترقت، وانبثق من رمادها عصر جديد". كان جوبلز خطيبا مفوها، يلهب مشاعر مستمعيه، خاصة الشباب، وكانت خلفيته العلمية – وهو الحاصل على دكتوراه في الدراما – معينا له في التلاعب بالمشاعر الشعبية لمواطنيه، وترسيخ العقيدة النازية في عقول معظم الألمان.
الاستقبال الفاتر لأينشتاين واحتياجه لعدة سنوات لقبول طلبه بالحصول على الجنسية، وهو الذي يُنظر إليه أنه "عالم القرن العشرين"، مؤشرا إلى النظرة العنصرية العامة التي سادت العالم الغربي تجاه اليهود. |
في اليوم التالي 11 مايو، كتب جوبلز في مذكراته الشخصية: "عملت حتى ساعة متأخرة في البيت، وفي المساء ألقيت خطبة خارج دار الأوبرا أمام شعلة نار حيث قام الطلاب بحرق الكتب القذرة والتافهة. كنت متألقا وفي أعلى حالاتي. حشود ضخمة، وطقس صيفي رائع قد بدأ اليوم".
في تلك الأثناء، استأجر أينشتاين بيتا في بلجيكا لعدة أشهر، وقبل دعوة لزيارة بريطانيا من قائد سلاح البحرية أوليفر لوكر، الذي كانت تربطه به علاقة صداقة لسنوات. زار أينشتاين بصحبة لوكر، السياسي البارز وينستون تشرشل ووزير المالية آنذاك أوستن تشامبرلين ورئيس الوزراء السابق لويد جورج، وطلب من تشرشل مد يد المساعدة لآلاف العلماء اليهود في ألمانيا واستقدامهم لبريطانيا. أبدى تشرشل موافقته على الطلب وأرسل أحد العلماء البريطانيين لألمانيا لبحث استقبال "عدد" من العلماء اليهود، ولم يتضح أبدا إن نتج عن هذا أي هجرة لعدد كبير. كانت سياسة تشرشل في السنوات اللاحقة هي السعي الحثيث لتهجير أكبر عدد من اليهود إلى فلسطين وليس إلى بلاده. قدم لوكر طلبا للبرلمان لمنح الجنسية البريطانية لأينشتاين، لكن البرلمان صوت ضد الاقتراح ورفض منحه الجنسية. بعد ذلك كتب أينشتاين أيضا إلى رئيس الوزراء التركي عصمت إنونو يطلب المساعدة، واستجابت الحكومة التركية وأنقذت حوالي ألف من العلماء اليهود واستقبلتهم على أراضيها.
في أواخر عام 1933 سافر أينشتين إلى الولايات المتحدة للعمل بمركز الدراسات العليا في برنستون، نيوجيرسي، لكنه في هذه المرة ذهب كلاجئ فار من ألمانيا النازية. وجد أينشتين نفسه وقد أصبح مقيدا بـ"حصة اليهود" المسموح بها في الجامعات الأمريكية، والتي تحد عدد اليهود المسموح لهم بالدراسة أو التدريس. هذه الحصة العنصرية، كان معمولا بها في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين في روسيا وكل دول أوروبا تقريبا بالإضافة إلى كندا والولايات المتحدة. كانت الحصة تتراوح من المنع التام لليهود من دخول الجامعات إلى تحديد نسبة مئوية متدنية، وكانت هذه الحصص مطبقة أيضا في معظم المؤسسات الحكومية الأخرى.
لكن سؤالا ربما يهمنا أكثر: هل تغيرت العلاقة بين الغرب وإسرائيل جذريا بحيث اختفت كراهية القرون الماضية، أم أنها ما زالت قابعة تحت السطح تحجبها مصالح سياسية في العالم العربي. |
في عام 1935 قرر أينشتاين البقاء والعيش في الولايات المتحدة، وتقدم بطلب للحصول على الجنسية، ولم يمكنه الحصول عليها إلا عام 1940. وكان من الأحداث الشهيرة آنذاك، أنه كتب في 1939 وقبل بدء الحرب العالمية إلى الرئيس الأميركي روزفلت يحذره فيها من إمكانية تصنيع ألمانيا لقنبلة ذرية، وهي الرسالة التي ساهمت في إقناع البيت الأبيض حينها بالبدء في "مشروع مانهاتن" لتصنيع القنبلة الذرية.
كان الاستقبال الفاتر لأينشتاين في تلك السنوات، واحتياجه لعدة سنوات لقبول طلبه بالحصول على الجنسية، وهو الذي يُنظر إليه أنه "عالم القرن العشرين"، مؤشرا إلى النظرة العنصرية العامة التي سادت العالم الغربي تجاه اليهود، حتى إن بعض النشطاء اليهود داخل الولايات المتحدة نادوا بوقف هجرة اليهود تماما إلى الولايات المتحدة ريثما تستقر أحوال وعلاقات اليهود المقيمين بغيرهم. وفي هذا السياق تقدم عضوا الكونجرس واجنر وروجر عام 1939 باقتراح قانون يسمح بقبول 20 ألفا من الأطفال اليهود مرتين سنويا، وحتى هذا القانون "الإنساني" تم رفضه على مستوى لجنة التشريع ولم يجد طريقه أبدا للتصويت.
ما زال كثيرون من المؤرخين والمفكرين اليهود يديرون هذا السؤال الحائر في عقولهم: لماذا احتقنت أوروبا وأمريكا بكل هذه الكراهية لليهود حتى منتصف القرن العشرين برغم "سلميتهم" وأنهم لم يملكوا حزبا سياسيا ولا ميليشيا مسلحة ولم تمثل أقلياتهم في أي قطر غربي معارضة سياسية، ومع كل ذلك تعرضوا لحملات إجلاء وإبادة بلا هوادة في كل الدول الأوروبية بلا استثناء؟! إنهم يتساءلون لا لفهم التاريخ القريب وحسب ولكن حتى لا تتكرر دورته مرة أخرى. الأسباب والدوافع التي يحصونها تتسم عادة بالاستخفاف وبإظهار "غير اليهود" على أنهم لا يملكون أي سبب منطقي لهذ الكراهية التي لا تكاد تهدأ أو تتوقف، أو أنها وليدة حسد لا يمكن تبريره.
السؤال يبدو عالقا في عقول النخبة الإسرائيلية، لكن سؤالا آخر ربما يهمنا أكثر: هل تغيرت العلاقة بين الغرب وإسرائيل جذريا بحيث اختفت كراهية القرون الماضية، أم أنها ما زالت قابعة تحت السطح تحجبها مصالح سياسية في العالم العربي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.