في البداية، كان الذين لم يؤمنوا من أهل مكة وقريش العدو الرئيس للنبي الكريم محمد ودعوته، بيد أنه لم يكن قادرا على الدفاع عن نفسه أو القتال، فقد كان يجتمع بالمؤمنين الأوائل في دار الأرقم ابن أبي الأرقم الذي همش ذكره ولَم يذكره التاريخ الإسلامي رغم أنه الرجل الحادي عشر من حيث الذين سبقوا إلى الإسلام والذي قدم ماله وداره لخدمة الدعوة الوليدة، وشارك بكل المواقع ومات في عهد علي ابن أبي طالب وشارك معه في معركتي الجمل وصفين، إذن صار واضحا تماما سبب إقصائه وتهميش ذكره. فمن جهة تبجيل الصحابة، فكلهم عند أهل السنة والجماعة من الثقات العدول، ولكن برزت الازدواجية في إقصاء وتهميش كل من ناصر الإمام عليا في معاركه ضد بني أمية.
المهم، فبعد أن صار عدد المؤمنين أربعين رجلا، جهر النبي الكريم بدعوته، وصارت تعاليم الإسلام تتوالى تباعا، وقد سطرت أخلاقيات القتال التي أمر بها النبي أصحابه مثلا رائعا يتناسب مع معطيات الزمان والمكان والحالة الاجتماعية.
الأمر يزداد تعقيدا ويصبح المشهد أكثر قتامة، فلم يعد التطرّف الفكري يقتصر على أفراد أو جماعة بعينها، بل صار التطرّف جمعيا والتعصب صفة تلف المجتمعات الإسلامية. |
انتهى عهد النبي، وقد كانت كل الحروب التي خاضها حروبا دفاعية بحتة، وقد توجت بفتح مكة بعد أن نقضت قريش عهدها مع النبي الكريم. ثم بدأت سلسلة حروب الردة، والتي قد يختلف الدارسون للتاريخ حول شرعية حدوثها، فمنهم من يرى أنها كانت ضرورية للحفاظ على هيبة الإسلام وموارده الاقتصادية من الزكاة والجزية، وبعضهم الآخر يراها اجتهادا خاطئا ويستندون إلى آيات القرآن الكريم في إثبات عدم قتل المرتد، إذ لا نص في القرآن الكريم يجبر الناس على الإيمان أو البقاء في حيّز الإسلام، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
ثم تطورت حدة الحروب التوسعية فأخذت صيغة الفتوحات الإسلامية، فقد كان الجيش الإسلامي يجوب الأرض ويقف على مدينة فيقول لأهلها؛ الإسلام أو القتال أو الجزية، وفِي الحقيقة فإن أحلى الخيارات مر بالنسبة لأهل المدن، فإن اختاروا القتال، ضربوا عن بكرة أبيهم، وان اختاروا الإسلام وانسلخوا عن جلد آبائهم وأجادادهم فإنهم اختاروه بغير قناعة ورضى خلافا لتعاليم القرآن والرسول الكريم، أما لو اختاروا الجزية فإنهم مدينون بها مدى الحياة ولن ينعموا بما ينعم به المسلمون من أبناء الدولة، فلا حظ لهم في الجيش أو الغنائم.
في عهد عمر بن عبد العزيز توقفت الجيوش عن ممارسة الحروب التوسعية، فقد كبرت رقعة الإسلام وامتدت والفساد، فأمر بإيقاف الفتوحات، وعزل ولاة بني أمية الذين نشروا الظلم والمظالم بين العباد، وصادر منهم الأموال التي أخذوها ظلما وبهتانا، ورد المظالم إلى أهلها، وأنصف آل علي بن أبي طالب، وأعاد لهم أموالهم وحقوقهم المغتصبة، وأوقف سب الإمام علي على المنابر وهي السنة التي استنها معاوية بن أبي سفيان، وبذل الجهد ما استطاع حتى انتشر العدل في عهده وساد الرخاء، فلم يعرف تاريخ الإسلام عهدا كعهده، ولا تمتعت حقبة خليفة بالعدل والإنصاف كما حقبته.
ثم مات الخليفة، وعادت المظالم كما كانت، وتبدل العدل بالظلم مجددا، وعاد بنو أمية لمقاليد الحكم كسابق عهدهم، حتى جاء العباسيون، فقتلوا بني أمية عن بكرة أبيهم بكل حقد وبلا أي شفقة، في ازدواجية واضحة بين سلوك القتل الهمجي وبين تعاليم الإسلام التي تحث على الصفح وعدم قتل الآخر بلا ذنب.
المماليك والعثمانيون لم يكونوا أفضل حالا، ففي عهدهم عادت الحملات التي كان عنوانها عدم تقبل الآخر، علما أنهم انتزعوا السلطة بالإكراه، فهم لم يكونوا يوما من أبناء جلدة العرب، بل هم مقاتلون محترفون، فشنوا الحملات على العراق والعرب حتى خضع العرب لسلطتهم، والأدهى سياسات التتريك ومحو الهوية العربية تحت راية الخلافة الإسلامية.
تحسن حال المسلمين بعد انقضاء عهود الخلافات المزعومة، وتنوعت الثقافات، وباتت سمة تقبل الآخر طاغية على التعصبات، وكان المسيحيون والمسلمون والسنة والشيعة لا فرق بينهم ولا عداوة، بل استأنسوا ببعضهم وتكاتفوا ليعيش العالم العربي أزهى فترات الانفتاح على الآخر وتقبله، فازدهرت الثقافة والفنون، وازدهرت الحياة الاقتصادية في العديد من البلدان العربية كالعراق ومصر اللتان كانتا ترسلان مساعدات مالية للعديد من الدول، بل إن رعايا الدول الأجنبية كانوا يقصدون بلدان العرب للعمل فيها في حالة معكوسة لواقع اليوم.
ثم عاد الإسلام السياسي إلى الواجهة مجددا، وبدأت حال الناس بالتقلب، فظهرت الجماعات والأحزاب الدينية المتطرفة، ونجحت في استقطاب الناس، وباتت حالة الفصام تزدهر من جديد، ليعود إلى المشهد عدم تقبل الآخرين على أساس اختلافهم بالعقيدة والمذهب.
المستقبل غامض جدا، والرؤية تكاد تكون معدومة في الطريق للمستقبل، فالناس تزداد تطرفا، والفكر يزداد توحشا، والحروب حاليا في المنطقة حروب دينية بامتياز يكبر القاتل فيها ويتشهد فيها المقتول. |
الآن، الأمر يزداد تعقيدا ويصبح المشهد أكثر قتامة، فلم يعد التطرّف الفكري يقتصر على أفراد أو جماعة بعينها، بل صار التطرّف جمعيا والتعصب صفة تلف المجتمعات الإسلامية.
هذه الحالة المتطرفة ازدادت خطورة بعد أن أصبحت حالة سلوكية تعزز حالة الفصام الفكري والازدواجية في التفكير للشخصية المسلمة؛ فمثلا حين تشاهد تعليقات الناس على سلوكيات التطرّف والإرهاب، تتباين الاّراء بين مؤيدين ومعارضين، ولكن في الحقيقة الغالبية من المؤيدين، وتستطيع أن تكتشف ذلك بوضوح حين يتطور النقاش أو يضطر الشخص للتعبير عّن حقيقة رأيه، فيتضح جليا أنه الشخص يعيش في مأزق بين الحالتين.
ثم إن الذين يتحدثون عن سماحة الإسلام، وكيف أنه دين سلام ورحمة، هم ذاتهم الذين يتحدثون في مواضع أخرى عن قتل المرتد، أو محاسبة من يسيئون للدين أو الرسول أو القرآن.
ولا ننسى حالة اغتيال قتيل الرأي ناهض حتر، الذي اغتاله جاهل بدافع الدفاع عن الله، وكأن الله عاجز وينتظر أحدا للدفاع عنه، وأنا شخصيا أعرف أشخاصا كانوا في بداية الأمر يستنكرون قتل حتر، ثم رأيت أحدهم قد كتب أن الذي يسب الرسول يقتل ولو تاب، وقام بقية الأشخاص الذين أشرت إليهم بضغط زر "إعجاب" على المنشور.
السر في ذلك يتضح بالتغذية المتطرفة التي مارستها بعض الجماعات والأفراد للمجتمع الإسلامي على مدى عقود، كالوهابية والإخوان المسلمين، والجماعات السلفية، وكل من يعتبر ابن تيمية شيخا للإسلام ومؤسسا لأحكامه.
المستقبل غامض جدا، والرؤية تكاد تكون معدومة في الطريق للمستقبل، فالناس تزداد تطرفا، والفكر يزداد توحشا، والحروب حاليا في المنطقة حروب دينية بامتياز يكبر القاتل فيها ويتشهد فيها المقتول.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.