تكرر هذا المشهد كثيرًا في تاريخ أمتنا أفقيًا ورأسيًا، فالفرقُ الضالةُ عبر القرونِ المتعاقبةِ خيرُ مثالٍ علي التحنط الفكري تجاه قضيةٍ معينةٍ، حتي قعَّدوا كافةَ أصولهم بناءً علي فكرة محددةٍ، ومن ذلك علي سبيل المثال: الخوارج: الذين طغت لديهم فكرة الحاكمية حتي أصبحت الهفواتُ كبائرَ والكبائرُ موجباتٍ للتكفيرِ، فانقلبت الأوزانُ النسبيةُ للأمورِ حتي طغوا وضلُّوا.
وقال جمعٌ من أهل العلم أن لفظ "مَنْ يُجَدِّدُ" الواردة في الحديث، تحتمل أن يكون المجدد فردًا أو طائفة من الناس (وبهذا قال النووي في "المنهاج" (13/69) وابن حجر في "فتح الباري" |
وكذلك المعتزلة: الذين علا قدرُ العقلِ عندهم لحدٍ ألزمهم إنكار بعض صفات الله، ومن ذلك مناظرة جميلة بين أبي الحسن الأشعري والقاضي عبدالجبار المعتزلي، فالمعتزلة ينكرون وصف الله بالعاقل ودليلهم في ذلك دليلٌ عقليٌّ، لأن العقل لغة بمعني المنع، فلا يوصف الله به، فأنكر عليه أبو الحسن الأشعري استدلالهم بالعقل في مقام التوحيد، (والأصل الاستدلال هنا بالنقل وما العقل إلا تابع)، وقال إن أنكرتم وصف الله بالعاقل فلابد أن تنكروا وصف الله بالحكيم، لأن الحكم بمعني المنع أيضًا ومنه قول الشاعر: بني حنيفة أحكموا سفهاءكم: إن أخاف عليكموا أن أغضبا، فلما طغي العقل علي النقل عندهم، أنكروا ونفوا صفاتًا ثابتةً لله عز وجلّ، وغير ذلك كثير لمن استعرض تاريخ الفرق والنِحَل الضالة.
ومن شواهد ذلك داخل التيارات الإسلامية المعنية بتغيير هذا الواقع المرير، الخلط بين فكرة التنظيم والهيكل، وبين الإدارة بالأهداف والانغماس في الجزء التشغيلي، ومعادلة الكم والكيف، واعتبار النقد نقضًا… إلخ مما هو مقررٌ واقعًا. وفي ذلك قول الشاعر: لعل ما هوَّنت ليس بِهَيِّنٍ ::: ولعل ما شدَّدت سوف يهون. وإنَّ فكَّ هذا التشابك المتداخل بين المفاهيم والثوابت والمتغيرات وإعادة الأمور إلي نصابها لهِيَ من أهم أدوار المجدِّدين.
ومن هنا تتدخل عناية الله بالقلة المنافحة عن دينه، وليس أدلُّ علي ذلك من قوله صلي الله عليه وسلم "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا". وتتمثل العناية هنا بإعادة البعث والتجديد، والتجديدُ لشيءٍ ما هو إلا محاولة العودة إلي ما نشأ عليه وظهر، بحيث يبدو مع قِدَمِهِ بحالةٍ جيدةٍ، وذلك بتقوية ما وَهَي منه، ورَتْقِ ما انفتق، وإعادة توزيع الأمور علي أوزانها النسبية الصحيحة، وإحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما- وما أكثره الآن- حتي يعود أقرب ما يكون إلي صورته الأولي، فالتجديد ليس معناه تغيير طبيعة القديم، أو الاستعاضة عنه بشيء آخر مستحدث مبتكر، فهذا ليس من التجديد في شيء.
والتجديد إنما ينمو ويتكامل بإضافة اللاحقين إلي ما بناه السابقون، لا بهدمه وتركه جملةً، وهذه الإضافة قد تتخذ شكل التهذيب والتنقيح، أو الانتقاد والترجيح، أو التجديد والتكميل، أو التصحيح والتعديل، وقد يجمع بين ذلك كله، وهذا صادق في كل العلوم الكونية والإنسانية والدينية.
من شواهد ذلك داخل التيارات الإسلامية المعنية بتغيير هذا الواقع المرير، الخلط بين فكرة التنظيم والهيكل، وبين الإدارة بالأهداف والانغماس في الجزء التشغيلي، واعتبار النقد نقضًا… إلخ |
وقال جمعٌ من أهل العلم أن لفظ "مَنْ يُجَدِّدُ" الواردة في الحديث، تحتمل أن يكون المجدد فردًا أو طائفة من الناس (وبهذا قال النووي في "المنهاج" (13/69) وابن حجر في "فتح الباري" (13/295) (وغيرهما كثيرٌ)، ولا يلزم منه أن يكون المجدد خاصًا بالفقهاء بل إن انتفاع الأمة بغيرهم أيضًا كثير، فـإن كـل قـومٍ ينفعون بفنٍ لا يـنـفــــع بــــه الآخر؛ إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء، ويُمكَّن من إقامة قوانين الشرع، وهذا وظيفة الحكام -وخلعهم وإبعادهم من أجلها من أجلِّ المطالب- وكذلك أصحاب الحـديث ينفـعـون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع … إلخ.
ومن لطائف العلماء في تبويب هذا الحديث ذكرهم إياه تحت عنوان "السُّنَن الوَارِدَة فِي الفِتَنِ وَغَوَائِلِهَا" كما عند أبي عَمْرٍو الدَّانِيّ (برقم364) وأبي داود في سننه "بَابُ الفِتَنِ وَالَملاحِمِ" وفي ذلك إشارة إلي أن حاجة الأمة للمجدِّد تكون أشدُّ وقت الفتن والحروب المعلنة علي الإسلام، وأن عملية التجديد تحتاج لجهدٍ وجهادٍ كبيرٍ، فالمجدِّدُون يأخذون بالعزائم لا الرُّخص، وعلي أكتافهم تُقام الدعواتُ والدولُ والهيئاتُ والمؤسساتُ، ولا ينتظرون إذنًا بالإصلاح والعمل، بل هم المتقدمون دوماً، السابقون لكل خيرٍ، فأيُّ الناسِ أنت؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.