شعار قسم مدونات

السعودية.. انطباعات ومشاهدات

blogs - makkah

عندما يُتاح لك بصفتك معتمراً زيارة السعودية بلاد الحرمين لأوّل مرّةٍ في حياتك، تختلط فيك المشاعر، وتتداخل الأحاسيس، تعيش لحظات من الشوق، ويحذوك الأمل لزيارة الكعبة المُطهّرة والمسجد النبوي الشريف، فالسعودية ليست بلداً مثل سائر البلدان، هناك مهبط الوحي، وخاتمة الرسالات السماوية.

 

عشرون يوماً عشتها في السعودية، فرضتُ على نفسي قوانين صارمة في عدم الانصياع لإدمان مواقع التواصل الاجتماعي بكل أشكالها، فأنا مُغرم حدّ الهيام بنشر صوري وزياراتي للمعالم والآثار التاريخية، والسعودية -بالتأكيد- زاخرة بتلك المعالم، كل شبرٍ فيها تاريخ يُكتب، وأحداث تُسجّل، وعبرٌ وعِظات.. لكن حدث في داخلي صراع من نوع آخر، العاطفة أصبحت في مواجهة العقل، انتصر العقل فيها في النهاية، خُيّل إليّ أن أعمالي وعباداتي ستبطل في حال نشرتُ كالآخرين صور "السيلفي" وخلفي الكعبة المشرفة، كيف تسمح لك نفسك ذلك، وأنت في أطهر بقعة في الأرض!

 

رسالة الإسلام عالمية لا تنحصر في إطار جغرافي ولا عنصر بشريٍ معين، الكل يستشعر عظمة بيت الله العتيق.

حتى التدوين، كان مدرجاً ضمن الممنوعات، قررتُ ألاَّ أدوّن، وألاَّ أكتب عن انطباعاتي ومشاهداتي في بلاد الحرمين.. لولا رسالة قوية ومؤثرة جاءت من الأعماق تحثّني للكتابة عن بلاد الحرمين حيث الكعبة المشرفة وقبر خير البرية، كيف لا أكتب عن انطباعاتي ومعايشاتي فيها! وأكتب عن بلدان وأمصار أخرى زرتُها، ولولا تلك الصيحة الداخلية لتوقفتُ عن الكتابة؛ حتى لا تجد هوى النفس حظوظها بين الأحرف والأسطر.

 

انطلقت رحلتنا من كينيا عبر الخطوط الجوية السعودية، يقرأ مساعد الطيّار "الكابتن" أدعية السفر، وأمامك شاشة، بإمكانك قراءة الدعاء بمفردك؛ أو الاكتفاء بتلاوة مساعد الكابتن لها، أن يصدح هذا الصوت داخل قمرة القيادة للطائرة أمر ملفت للنظر، منشورات ومجلات دينية تشرح للحاج والمعتمر طريقة أدائه للمناسك، وأخرى ثقافية عامة.

 

دخلنا مكة المكرمة بعد رحلة استغرقت أربع ساعات من العاصمة الكينية نيروبي حتى جدّة، في "بكّة" بوتقة لانصهار الشعوب وأجناس متعددة من خلق الله، أدركتُ سرّ إسلام " مالكوم إكس" الداعية الأميركي الأسود، والذي اغتالته جماعة أليجا محمد (أمة الإسلام) عام 1961 بعد عودته من رحلة حجٍ تاب فيها، وأُعجب بتنوع ألوان الحجاج ولغاتهم المختلفة، وأن دعوة "أمة الإسلام" القائمة على العنصرية وتفوق الجنس الأسود على الأبيض في أمريكا دعوة عنصرية وباطلة. نفس الشعور تملّكني وأنا في داخل الكعبة.. هنودٌ وبنغاليون وصينيون وأفراد من شعوب شرق آسيا وأفارقة وعرب كلهم يطوفون بالكعبة مردّدين "بسم والله أكبر" و"اللّهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" بين الركن اليماني والحجر الأسود.. ذابت الفوارق كلها.. رسالة الإسلام عالمية لا تنحصر في إطار جغرافي ولا عنصر بشريٍ معين، الكل يستشعر عظمة بيت الله العتيق.

 

بعد سبعة أيام من إقامتنا في مكة بدأنا نشد الرحال نحو مدينة الرسول، وزيارة قبره الطاهر وقبر صاحبيه أبوبكر وعمر وبقية الصحابة في مقبرة البقيع، وكذا موقع غزوة أُحُد ومسجد قباء وغيرها من المعالم التاريخية في المدينة المنورة. في المسجد النبوي تُبهرك أصالة العمران، وتستحضر في ذاكرتك تضحيات الصحابة وإنجازاتهم، في قبر خير البرية أعداد هائلة من المسلمين من كل بقاع الدنيا، ولسان حالهم يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه .. فطاب من طيبهنّ القاع والأكمُ

نفسي تتوق لقبرٍ أنت ساكنه .. فيه العفاف وفيه الطهر والكرمُ

 

من أجمل زياراتي التي كانت لمقر الجالية البورماوية في مكة المكرمة، واللقاء مع قيادات "المركز الإعلامي الروهينغي"، حيث ارتبطتُ مع قضية "الروهينغيا" قبل خمس سنوات بالتحديد -كما ارتبط "كارلوس الثعلب" بقضية فلسطين-، فالفوارق الجغرافية لا تمنع من أن تتعايش مع أحوال المسلمين المضطهدين في بورما. خلقتُ صداقة افتراضية مع الصحفي والإعلامي الروهينغي "صلاح عبد الشكور"، تبادلنا بعدها سيلاً من الرسائل من أجل قضية مسلمي الروهينغيا، وعند زيارتي الأخيرة لهم سررتُ جداً بالعمل الدؤوب والجهود المثمرة التي يقوم بها الإخوة الروهينغيون بدعم من السعودية، وفي تدوينة منفصلة سأحكي لكم متى بدأت علاقتي مع الروهينغيين.. إنها علاقة وصداقة وجدانية، وتعاهد من أجل نصرة قضيتهم، والوقوف إلى جانبهم، هم في الحقيقة شعب يكافح من أجل البقاء، ونحن صامتون نشاهد مجازر البوذيين بحق إخواننا المسلمين في إقليم أراكان.

 

الالتزام لا يعني أن تكون مؤدلجاً، ولا ينبغي تصنيفك في خانة فكرية معينة، بقدر ما هي واجبات سماويّة على المسلم اتباعها

في جدة كنتُ في ضيافة صديقي "أحمد حسن يعقوب"، استقبلني فيها وقام باللازم، وأخذني الملحق التجاري بسفارة جمهورية الصومال "علي محمود حاجي" في جولةً تفقديةً في مدينة جدة زرتُ فيها مسجد "الرحمة" وهو مسجد داخل البحر، ودوّار الكرة الأرضية، والكورنيش، وجدة القديمة والجديدة وغيرها من المعالم السياحية في المدينة التجارية. ولأول مّرة أعرف أن أصل تسمية "جَدّة" بفتح الجيم عكس الصوماليين الذين ينطقونها بـ"جِدّة" بكسر الجيم، هي لوجود ضريح أمنا حوّاء عليها السلام، وهو مزار ومعلم سياحي في المدينة يزورها من يرغب. وقابلتُ في جدة أيضا "عيسى خيره روبله" المدير العام لوكالة الأنباء الإسلامية الدولية " إينا"، وهو جيبوتي الجنسية، حيث أعطاني تنويراً عن عمل الوكالة، ونطاق انتشارها في العالم، ورؤيته لتطويرها، وإحداث نقلةٍ نوعيةٍ فيها.

 

في السعودية عموماً أخذت عنها انطباعاً جيداً، قبل الزيارة كنتُ – كغيري من الناس- أسيرَ الصورة الذهنية التي يروّجها الإعلام عن المملكة، يصوِّر الإعلام بأنه بلد متزمت والوهابية وكأنهم بشر خارج الكوكب الأرضي، وأنا أتجول داخل إحدى مكتبات المدينة المنورة وقع نظري على كتاب بعنوان "وهّابي خارج الدائرة" اقتنيتُ الكتاب، وبدأتُ فوراً بمطالعته، الكتاب إجابة ضمنيّة عن مجمل ما كان يدور في ذهني، أتفق مع الكاتب – وهو أكاديمي سعودي درس في الغرب- بأن الإعلام العالمي يجعل المسلّمات الدينية عند المسلمين وكأنّها أيديولوجية وهابية، وهو خطأ ممنهج ومقصود، ويقع الناس في ذلك الفخ.

 

الالتزام لا يعني أن تكون مؤدلجاً، ولا ينبغي تصنيفك في خانة فكرية معينة، بقدر ما هي واجبات سماويّة على المسلم اتباعها، والفكر الوهابي نفسه ليس وحشاً ضارياً؛ إنما اجتهاد بشري يتناسب – برأيي- مع تلك البيئة لضبط التفلّتات العقدية، فأنا بطبعي ميّال نحو التصوف، ومع ذلك لو أطلقنا عنان التصوف في تلك البيئة ربما تنتشر الخرافة، وينشغل الناس في الأضرحة والقبور بدل انشغالهم في توحيد الله وإقرار ربوبيّته واستحضار معاني عبوديته!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان