هناك أثر ملموس في العلاقات الجيوستراتيجية لعالم اليوم، الفكرة وضع أصولَها ابن خلدون في مقدمته، تقول بأن الغالب يجر المغلوب من خلال ما يمارسه عليه من استلاَب لقدرته على صياغة توقعاته الخاصة عن مستقبله، يرتبط استشراف ملامح مجتمع الغد بصورة مباشرة بالفلسفة التربوية التي تشارك في مهمة صياغة الشخصية الجماعية، وحيث أن الأنظمة الأكاديمية العربية تسير على سُنّة نظيرتها الغربية في اعتماد نفس الهيكل التدريسي الذي يشكل العمود الفقري للمناهج التعليمية، كما هو الأمر في المساحات الزمنية لسوق الشغل والإدارة العمومية، فإن فكرة ابن خلدون أضحت أمرا مقررا، حتى إننا لنجد لها تطبيقات خارج دائرة المجتمع العربي، كما هو الحال في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كان الاختلاف جليا بين السياقات الحضارية.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الزمن التعليمي، ارتبط في تاريخ التعليم الإسلامي بفواصل معينة كالصلوات الخمس وعطل العيدين، ثم ما جرت به العادات المحلية لكل مجتمع في أفراحه ومآتمه، لقد اقترنت المدرسة بمؤسسة المسجد بسبب أن المسألة التعبدية هي عملية ذات عناصر مادية قابلة للمعاينة مثل النظافة (الغسل والوضوء) والترتيب (صفوف الصلاة وأوقات الآذان) وبالمقابل اقترن المسجد بمؤسسة المدرسة بفعل الحالة الروحية التي تحفز جماعة التعلم، وهذه الثنائية التي اندمجت في جغرافيا المسجد-المدرسة هي نفسها النسخة التي اندمجت في جغرافيا الدَّيـر-المدرسة في بدايات مرحلة النهوض الأوربي.
إن فكرة المنهج الأسري، ليست اختيارا بورجوازيا، بقدر ما هي حل لأزمة المناهج التربوية التي أنتجها غياب فلسفة تربوية عربية "أيّ مُتعلم نريد" هو سؤال يقود في النهاية إلى سؤال: "أي مجتمع غدٍ نريد؟" |
تم فصل الزمن البيداغوجي عن الزمن السوسيولوجي منذ أن صارت الفلسفة التربوية خامات مستوردة، ومثالا على هذا نذكر النقاش الذي أثاره التربويون المغاربة حول اعتماد بيداغوجيا الإدماج التي صاغها رجل التربية البلجيكي كزافيي روجرز، لم يدُر النقاش حول مدى ملاءمة هذه البيداغوجيا للبيئة التربوية المحلية، بل لأن استيرادها شكل اعترافا ضمنيا بعدم توفر البلاد على فلسفة تربوية محلية تعكس القيم التي عليها يقف المجتمع المغربي، مشتركا في هذا مع البلدان التي تعيش ما يمكن أن أسميه بالحالة الاستعمارية، متجلية في عمليات تغيير المناهج التعليمية التي عرفتها دول مثل الأردن والمغرب عقب احتلال العراق وأفغانستان، مدفوعة بهوس تبرير الذات التي تقودها اللبرالية العربية الرسمية.
لقد صرنا الآن كمهتمين بالمجال التربوي، مقتنعين بوجود أزمة تعليمية بنيوية تشهد على وجودها الدولة نفسها، وأعتقد أنه يجب النظـرُ إلى ظاهـرَة التمـزّق في العلاقـة التربويـة (معلم ـ متعلم) علـى أنهـا انعكـاسٌ مباشـر لانسحـاب المدرسة ـ كمـؤسسـة مرجعية ـ من الحياة العامّة! أو على وجه الدقة: تخلّيها عن دورها في تشكيل قيم الجماعة.
إن الأُسَرَ التِي تفطنت مبكرا لهذا الانسحاب ليست هيَ التي ألجأت أبناءَها إلى مدارس التعليم الخصوصي، ولا إلى التعليم الديني المؤسّسـي.. بل هي الأسرُ التي استعاد فيها الأبوان دورهما الفطري الذي "تتظاهر" المدرسة بالقيام به، أي التربية والتلقين، وصاغوا-عمدا أو عفواً-منهجَهما البديل عن الفشل الذي أثخَـن البيداغوجيات المتداوَلـة بجراح التجريب، وإذا كنت موقنا-عزيزي القارئ- بأن قرارات مهندسي المشهد التربوي في بلدك، تمس مستقبل أبنائك، فمن اليسير جدا أن تدرك أنه لن يمكنك القول لابنك المراهق: عذرا يا ولدي.. لقد أعلنوا أن المنظومة التربوية معطوبة.. تعالَ نعيد من جديد! إنهم يفعلون هذا بصورة دورية، حتى أضحت الأجيال مشاريع فاشلة للمستقبل، فما الذي يجب فعله؟
إن فكرة المنهج الأسري، ليست اختيارا بورجوازيا، بقدر ما هي حل لأزمة المناهج التربوية التي أنتجها غياب فلسفة تربوية عربية "أيّ مُتعلم نريد" هو سؤال يقود في النهاية إلى سؤال: "أي مجتمع غدٍ نريد؟" مجتمعٌ الغد قادم سواء شاركنا في صياغة شخصيته أم لا، ويحق لنا أن نتساءل ما إذا كانت النماذج البشرية التي أنتجها المدارس المستنسخة عن مؤسسات البعثات الأجنبية في بلادنا، تشكل حقا نماذج لما يمكن أن نبني عليه توقعا متفائلاً لمجتمع الغد الذي نريده؟ أم أنها لم تفعل سوى أن تكرس معضلة نون سحنون.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.