مِن العقل تكفينا حقيقةُ أن عددَ عمليات التخطيط من مُجمل عمليات علم ومِهْنَة وفَنّ إدارة المشاريع يبلغُ أربعًا وعشرين (24) عملية، من أصل سبعٍ وأربعين (47) |
ومِن العقل تكفينا حقيقةُ أن عددَ عمليات التخطيط من مُجمل عمليات علم ومِهْنَة وفَنّ إدارة المشاريع يبلغُ أربعًا وعشرين (24) عملية، من أصل سبعٍ وأربعين (47)، هي كل عمليات إدارة المشاريع؛ وهذا بموجب الدليل المعرفي لإدارة المشاريع ومِعيارِها القياسيِّ العالميِّ. وعليه؛ فإن التخطيطَ، من الناحية العِلمِيةِ المِهْنِيةِ الصِّرف، يحوزُ ما نسبته واحدًا وخمسين (51) بالمائة من إدارةِ ونجاحِ أي مشروعٍ في الوُجود.
هذا كلهُ ونحن بمواجَهَةِ حقيقَةٍ موضوعيةٍ حَتمِيَّة؛ مُفادُها أنَّ مستوى التَّنْفِيذِ في المَشارِيعِ قَلّما يَرتَقي لِمُستَوى التَّخْطِيطِ الصَّائِبِ الصَّحيح. فَكَيْفَ بِهِ إذا كان التَّخطِيطُ أَصلًا! خطأً أو ضعيفًا؟ أما لماذا؟ بِرَغمِ بَدَهِيَّة ويَقينِية الحقائق أعلاه، نجدُ تمنُّعًا واستِنكافًا! لا بل تحايُلًا ومقاومةً للتخطيط الصَّائِبِ الصَّحيح في واقعِنا العربيّ؟ وإن كان هناك من قَبولٍ له، فلماذا يكون عادةً بأسلوبٍ مَظهريّ شَكليّ، لا يَمَسُّ الجَوهَر والحقيقَة؟
أُقَرِّرُ -من مَوقِع مسؤوليتي المِهْنِية والأخلاقِية- أنَّ ضَعفَ التخطيطِ أو خَطَئِه في واقعِنا، نحنُ العرب، ظاهرةٌ ثقافية "Cultural" في الأساسِ والسَّبَب. فضلًا عن كونها إدارية "Managerial". وإذا عَلِمنا أن ثقافة المجتمعات هي المُستَنبَت والحاضِنَة لممارساتهم الإدارية، فإنَّ هذا يستَدعي فينا ويستَوجِب علينا استشعار مسؤولية التغيير في مستوى البِنيَة التَحتِيةِ؛ التي تقوم عليها الممارسات الإدارية عند الإنسان العربيّ؛ ألا وهي ثقافتُه الطابعَةُ لحياتهِ الفردية والمُنَظَّميَّة، والتي قِوامُها مجموعُ المعارفِ والمعتقداتِ والأخلاقِ والسياساتِ والقوانينِ والعاداتِ والتقاليدِ والفنونِ… إلخ.
مِمّا هو مُقرَّر في علم أصول الفِقه الإسلاميِّ أن "الحُكمَ على الشَّيءِ فَرعٌ عَن تَصَوُّرِهِ" وحُكمُنا المَبني على خِبرَتِنا اليَقينِيَّةِ المُعاشَة، وليست التصَوريَّةِ وحسْب، في جُلِّ (وليس كُلّ!) مَشاريعِ واقِعِنا التغييريةِ الإصلاحيةِ النهضويةِ، أنَّها تُدارُ بأحلامِ العَصافير، لا تَخطيطِ المِهْنِيِّين المُؤَهَّلين |
إن الواقعَ العلميّ والمِهْنيّ يفرِضُ علينا، نحن الإداريّينَ، الاعترافَ والتسليمَ بحقيقةٍ فحواها أن جُلَّ إشكالاتِنا ومَشاكِلِنا في واقعنا العربيّ تَتجاوزُ نِطاقَ وحَدَّ سيطرةِ وتحكُّمِ العلومِ والحلولِ الإدارية، لِتنتهي في نطاقِ، وعلى حَدِّ، سيطرةِ وتحكُّمِ العلومِ والحلولِ السياسية، هذا بالرغم من كبير المشتَرَك بينهما. ومعلومٌ أن الإدارةَ والسياسةَ في الأساس كلاهما علومٌ اجتماعية "Social Sciences"؛ مُستَنبَتُهُما وحاضِنتُهُما ثقافة "Culture" المجتمع. وإن جازَ لنا التعبير؛ فإننا نقول: إن اللهَ عز وجل لَيَزَعُ "يردَعُ ويمنَع" الناسَ بسُلطانِ السياسَةِ مَا لا يَزَعُ بقُرآنِ الإدارَة.
فمن المفارَقات والتناقُضات التي خَبِرتُها في واقعنا المشاريعيّ الاستراتيجيّ، وبالتالي استَوجبَ عَلَيّ دَقُّ ناقوسِ الخطر، وكتابةُ مَقالي هذا؛ أذكرُها تمثيلًا لا حصرًا:
المُفارَقة (1): تجِدُ رجالَ/سَيّدات الأعمال "Businesspersons" في واقِع سُوقِنا العربي (وجُلُّهُم في الحقيقةِ تجارٌ أو مُضارِبون "Traders" وحسْب! وليسوا بِالمُسْتَثمِرينَ "Investors")! تجدهم يستَسيغُون ويتَقَبَّلون مُدَّةَ الأسابيع في التخطيطِ، مثلًا، لمشاريع مُباريات كرةِ القَدم وهي أعمالٌ مشاريعيَّة نموذجِيَّة حيث مُدَّةُ تنفيذِها بِضعُ ساعات. بينما لا يُطيقون ولا يتحمَّلون المدّةَ الزمنيةَ نفسَها في التخطيطِ لمشاريعَ يدومُ التنفيذُ فيها شهورًا أو سنوات. ولَيتَنا فَلَحْنا في أيِّهِما!
المُفارَقة (2): حركةٌ إسلاميَّة عريضَة أكَّدَ أحدُ قادَتِها، وهو -يرحمه الله- قاضٍ وفَقيهٌ دُستورِيّ، من قَبلِ نصفِ قَرن من الزمن، في كتابٍ له مُتَداوَل (الإسلامُ: بين جَهْلِ أبنائِهِ وعَجْزِ عُلَمائِهِ – الاتحاد الإسلاميّ العالميّ للمنظّمات الطلابية -الطبعة الخامسة- صفحة "47" – فِقْرَة "4") أكَّد سِياسِيًّا -وبشكلٍ قطعيٍّ- أنَّ الحكومةَ والدَّولَةَ المنشودَةَ هي دَولةٌ "دينِيَّـــة" إسلامية! وفي السنواتِ الأخيرة وَجَدنا الحركةَ نفسَها تُنادي وتُؤكِّدُ سياسيًّا بأنَّ الحكومةَ والدولةَ المنشودةَ هي دولةٌ "مَدَنِيَّـــة"! فأين مشروعُ بناءِ "النظريةِ السياسيةِ الإسلاميةِ المعياريةِ" (نِسام)؛ التي نَنظُرُ بها، ومن خلالها؟! وأينَ نَفاذُ البَصَرِ والبَصيرَةِ عند هؤلاء؟
المُفارَقة (3): في غَمرَةِ أحدِ الاجتماعاتِ الاستشارية، لأحدِ المنظّمات، أجهَدَني إقناعُ رئيسِها الماليّ التنفيذيّ "CFO" بأن إصرارَهُم على الامتِناعِ -لاعتِبار توفير الكُلفَة من مَنظورِهِم الماليّ المحدود وليس الإدارِيّ المُتكامِل المُستَوعِب- من صَرفِ مَبلَغٍ قليل نسبيًّا من المال في التخطيط لمشروعٍ قائم سيتَسبَّبَ بأضرارٍ وخسائر في التنفيذِ قد تبلُغُ أضعافًا مُضاعَفة من المبلغ المراد؛ حتى اضطرني إلى تمثيلِ الحالَةِ -مَجازيًّا- بِنُكْتَةِ الشخص الذي قام بالبحث عن قطعةِ نَقْدٍ مَعدِنِيَّة، فقدَها في الظلام، بالاستِنارةِ بإشعالِ النار في وَرَقَةِ عشرة الدنانير!
الخلاصة؛ مِمّا هو مُقرَّر في علم أصول الفِقه الإسلاميِّ أن "الحُكمَ على الشَّيءِ فَرعٌ عَن تَصَوُّرِهِ" وحُكمُنا المَبني على خِبرَتِنا اليَقينِيَّةِ المُعاشَة، وليست التصَوريَّةِ وحسْب، في جُلِّ (وليس كُلّ!) مَشاريعِ واقِعِنا التغييريةِ الإصلاحيةِ النهضويةِ، أنَّها تُدارُ بأحلامِ العَصافير، لا تَخطيطِ المِهْنِيِّين المُؤَهَّلين، وهذا من أهمِّ أسباب اتساعِ الهُوَّةِ المُخِلَّةِ بالتوازُنِ بين الموجودِ والمنشودِ.
لعلّ مقالَنا التشخيصيّ الكاشِف هذا لأهمّ الأسباب الموجودَة؛ والحائِلَة بيننا والنهضةِ المنشودَة. لعلّهُ يُقدِّمُ مَدخلًا لشَطْرِ الحلِّ، وهو الشطرُ الأوَّليّ والأَوْلى بالهَمِّ والاهتِمام… وعليه؛ أهيبُ بكل المَهمومين والمُهتَمِّين مُشارَكَةَ حقائِقِه على أوسَعِ نطاقٍ، وبمختَلِف وسائِل الاتصال. إعذارًا إلى الله عز وجل، وإبراءً للذِّمة، ولعَلَّهُم يَتَّقون! والسلامُ على التَّغييريِّين الإصلاحِيِّين النهضَوِيّين في العالَمين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.