كما يبدأ موسيقار كلاسيكي مُحترف سيمفونيتهُ، تبدأ إتيل عدنان قصيدتها. فيُمكِن أن نُشَبِّه مطلع القصيدة بالبادِئة الموسيقية لسيمفونية بيتهوفِن الخامسة حيث لا تكُفّ فيها ضربات القَدَر عن هزّ مسامِعنا ومشاعرنا. كذلك في قصيدة عدنان، لا تختفي صورة الشمس الغاضبة، كما صوَّرتها، مِن مخيلة القارئ. وفي كُل جزء الأجزاء التسع والخمسون من القصيدة، تُطلق عدنان أجراس تنبيه مُدويَّةً في قلب وعقل كُل فرد عربي، بل كُلّ إنسان. هيَ ربّما تُريد إيقاظ الفرد، لا من نومه، بل من غفلته عمّا يدور حقيقةً حوله.
هذا هُو مرضُنا: الغفلة، لا النوم. البَون شاسع بينهما. فالغياب الناتج عن النوم يُمكن تبريره بطريقة ما، أما غياب الغفلة، فلا يُمكن تبريره، بل من العيب تبريره! تتمنّى إتيل عدنان أن يستيقظ الفرد العربي قبل فوات الأوان. قبل أن تبتلع شمس الحرب، بين العرب أنفسِهِم، كُل العرب، فيُصبح الإصلاح والسلام مستحيلاً أو أشبه بحُلم مُزعج.
يستيقظ القارئ العربي في القصيدة على واقعه المَعيش المُخضَّب بالدَّم والعار. يراه على حقيقتِهِ بدون أقنِعِة، ويتوَقّع ما ستؤول إليه الحال إن بقيَ المَرَض دون علاج. هذه هي الخطوة الأولى: الاعتراف بفداحة المُصاب، واتّساع الفتق على الراتق. الاستيقاظ. هذه أول درجة في سلّم التغيير. ولكن، لا بُدّ لهذه اليقظة ألّا تكون بعد فوات الأوان مِثل يقظة المريض المفاجئة قبل موته. هذه اليقظة هي التي رآها الشاعر الإنجليزي ت.س.إليوت في خِتام قصيدته "قصة حُب بروفروك"، حيثُ صوَّرَ لنا مشهد يقظة شخص غافل. يستيقظ فجأة على وقع أصوات بشرية تنبِّهُهُ، ليُفاجأ بأنّهُ يغرق في البحر ولا أمل في إنقاذه. هذه اليقظة المؤلمة هي ما تتنبّأ به عدنان وتكتُبُ مُحذّرةً منه، فتعرِضُ لنا، في خِتام قصيدتها، صورةً مُروّعة للشمس وهي تلتهم فلذة كبدها، الأرض ومن عليها. ثمّ يسود ظلام دامس لا سِلمَ فيه ولا حرب.
إذا لم يكُن من الموتِ بُدٌّ، فمن العجز أن نموتَ مُتحاربين فيما بيننا. من العجز أن نموت بأنانيّتنا. إن لم يكُن هنالِك بدٌّ من أن تبتلعنا الشمس وتذَرنا ظلاماً دامساً. |
لكن، وسط كلّ هذا الدمار الذي يقودنا شيئاً فشيئاً نحو النهاية المُظلمة، يَبرُزُ في مكانٍ ما من القصيدة ضَوء خافت، يُمكن أن يمُرّ به القارئ العادي مرور الكرام دون أن يلتفتَ إليه ولا إلى رمزيته العظيمة – رمزية الأمل الذي ربّما تُعوّل عليه عدنان، رغم أن هذا التعويل لم يكن واضحاً تماماَ ولا صريحاً في القصيدة.
في كُلّ ظلام مهما بدا دامساً، لا بدّ أن يقبع في زاويةٍ ما مِنهُ خيطُ نور باهت، هذا الخيط الباهت في قصيدة عدنان كان ضَوء "شمعة" منزوٍ. ولا تخفى أهميّة "الشمعة" كرمز على كلّ من يتعمَّق الأدب. رمزيّة هذه "الشمعة" يُمكِن فهمها بشكل أوضح من خلال تجلّي محمود درويش في خِتام قصيدتهِ الخالدة "فكّر بغيرك". حيثُ يقول: "وأنتَ تُفكّر بالآخرين البعيدين، فكّر بنفسِكَ قُل: ليتني شمعةٌ في الظلام".
هذا هو المعنى الذي برزَ ربَّما دونَ قصدٍ من إتيل عدنان في قصيدتها. هذه هي الشمعة المنزوية التي هي الأمل الحقيقي للعرب، تماماً كما رآها محمود درويش. كَفَرت عدنان، وحُقّ لها أن تكفر، بكلّ أشكال الأنانية والعنصرية، وكَفَرت بكلّ القوميات العصبيَّة التي ما انفكّت تقودنا جميعاً نحو الهاوية. ضَرَبات القَدَر التي دوّت في مطلع قصيدتها، كانت وكأنها تنزِل فوق رأس كُل أناني وكُلّ عنصري كي توقِظَهُ لتُخلّص الجسَد العربي المريض من سموم فكره. والرّهان كلُّه في سِفر عدنان المتشائِم، الذي هو أشبَهُ بنبوءة، ينصَبُّ على نور شمعة درويش الخافت – نور الإيثار والتفكير بعقليّة جَمعيَّة مُحبّة للآخر، لا للذات فحسب. هذا المَنطِق هُو "عيسانا" المُخلّص الذي سيَقينا جميعاً من غضب شمس عدنان.
ربّما يمكننا، إن أردنا أن نكون مغرِقين في التشاؤم على طريقة إتيل عدنان، أن نقول بأنَّه نظراً للواقع الحالي فإنَّهُ ليس هُنالِك من الفناء بُدّ. ليَكُن! ولكن كما قال المتنبّي: "وإذا لم يكُن من الموت بدٌّ، فمِن العجز أن تكونَ جباناً". فإذا لم يكُن من الموتِ بُدٌّ، فمن العجز أن نموتَ مُتحاربين فيما بيننا. من العجز أن نموت بأنانيّتنا. إن لم يكُن هنالِك بدٌّ من أن تبتلعنا الشمس وتذَرنا ظلاماً دامساً، فلنكُن أخوةً متآلفين ساعتئِذ، ولنتمسَّك بالـ"شمعة" المضيئة في قلب كُلّ فرد مِنّا. علّنا نجِدُ في ذلك الظلام هُدوءاً وسلاماً وحياة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.