قبل أيّام أعلن الرّئيس الأمريكي ترمب منعه دخول مواطنين من ٧ دول تحمل الهويّة الإسلاميّة وهم ليبيا والعراق واليمن والسّودان وسوريّا وإيران والصّومال. ومن بين كلّ هذه الدّول استوقفني بصراحة اختيار دولة العراق، وقلت في نفسي "أخ بس، على الأقل لما تقتلوهم، امشوا بجنازتهم"!
في تلك اللّحظة جنّ جنون عدد كبير من الشّعب الأمريكيّ وخرج للشّارع ينادي بحريّة الرّأي والتّعبير وأهميّة احترام الاختلافات وعدم التّمييز بسبب الجنسيّة أو العرق أو اللّون. هذا الشّعب الذي كان يتغنّى بتحرّره من العنصريّة، وأنّ الأحداث التي كانت تصيب السّود مثلاً هي أحداث فرديّة لو تمّ إثباتها في القانون لأخذ الأسوَدُ حقّه، فالتّمييز بين الأبيض والأسود جريمة يحاسب عليها كل من يطأ أرض الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ثمّ أطلّ عليهم الرّجل المليونير وجعل التّمييز أمراً "قانونيّاً".
المطارات امتلأت عن بكرة أبيها بأناس من كلّ الدّيانات، يهوديّة تحمل لافتة كتبت عليها "زوجي مسلم، وابني أيضاً، فهل ستمنعونهم من الدّخول؟". |
شاهدنا المئات من الصّور واللّافتات من العرب والأمريكيين ومن المهاجرين واللّاجئين وغيرهم، سهروا ليالٍ متتالية محاولين إيقاف هذا القانون الجائر. كنت أشاهد ما يحدث في أمريكا وأترصّد الأحداث بدقّة ما بين الفيس بوك وتويتر وصفحة ابنة ترمب التي قررت أن تصوّر نفسها في فستان باذخ يوم صدور القرار وما بين الرّسائل التي تصلني من الأصدقاء غير العرب هناك يسألونني عن جمل عربيّة ليكتبوها على لافتاتهم.
رغم قسوة القانون الذي سيتسبب في مآسٍ لعائلات كثيرة ومستقبل طلّاب عدّة، قلت في نفسي، "ألم يفعل ذلك ترمب ليحمي أمريكا من الإسلام حسب زعمه؟" هل فعلاً حماها؟ وهل فعلاً نجح في نشر الذّعر في قلوب شعبه ليهابوا هذه الدّيانة؟ ويشجعوه على خطوة الطّرد والمنع والعنصريّة؟" لا أعتقد أنّ ما حصل كان ضمن حسابات ترمب، تماماً كما أنّه لم يتوقّع أن يفوز أصلاً بالرّئاسة. فماذا كانت ردود فعل النّاس؟
نزل في كلّ مدينة رئيسية أمام المسجد الرّئيسيّ هناك، جمع النّاس حوله وصار يتحدّث عن الإسلام ويردد عباراتٍ تُوَحِّد بين الجماهير بغضّ النّظر عن ديانتهم ويردد الجميع من خلفه.
امتلأت الشّوارع واختلطت بتلك التي تلبس فستاناً قصيراً وذلك الشّيخ الملتحي وزوجته المحجّبة ينادون كلمة واحدة "العدالة"، في زمن كان يُنظر إلى ذلك الرّجل أنّه "في غالب الظّن إرهابيّ حتّى يثبت العكس".
امتلأت الشّوارع بالمحجبّات والمسيحيّات العربيّات وبسمر البشرة يرددن أنّهن يعرفن حقوقهنّ، ولن يتنازلن عنها، وسيمضين في الدّفاع عن العدالة في أمريكا بكل ما يملكن من قوّة. وفي هذا كسر للصّورة النّمطيّة أنّ المحجبة امرأة مظلومة، حبيسة المنزل، لا صوت لها ولا صورة حتّى، أو أنّه لا وجود للمسيحيّن العرب أصلاً. ففي الاعتصام النّسائي فور تولّي ترمب منصب الرّئاسة وفي يوم القَسَم ألقت امرأة فلسطينية أمريكية اسمها ليندا صرصور كلمة أمام عشرات الآلاف وبدأت كلمتها ب "أنا مسلمة، أمريكية، عربية، فلسطينية من أرضٍ مُحتلّة، وهذا الرّئيس لا يمثّلني". تضامنت الكثير من المؤسسات والشركات الكُبرى مع هذه القضيّة، فمثلاً وصلتني رسالة من أكاديمية نيويورك لصناعة الأفلام تخبرني أنّها فخورة أنّني كنت من طلّابها مهما كانت جنسيّتي.
المطارات امتلأت عن بكرة أبيها بأناس من كلّ الدّيانات، يهوديّة تحمل لافتة كتبت عليها "زوجي مسلم، وابني أيضاً، فهل ستمنعونهم من الدّخول؟"، وآخر كتب "زوجتي إيرانيّة، وأتمنّى أن يرث ابني بشرتها السّمراء الجميلة"، وثالث كتب "إذا مُنع المسلم من الدّخول، فاعتبرنا جميعاً مسلمين، فماذا ستفعل الآن؟". بصراحة وبسبب التّشوّهات الإعلامية التي تصيبنا ظُلماً وبهتاناً، هل اعتقدنا أنّ النّاس سيمشون في الشّوارع يحملون لافتة تقول "أنا مسلم؟" أو "والدتي مسلمة وأفتخر؟".
الشّعب خذل ترمب، في اللّحظة التي كان يتوقّع فيها ترمب تصفيقاً، نام وقام على صراخ يحيط ببيته الأبيض. هل أسرع رئيس أمريكيّ لوّث تاريخه بيديه، ولسانه؟ |
في وقت الأذان، وفي دقيقة كانت الجالية المسلمة قد اصطفّت بكلّ أناقة وتهذيب وهدوء لتقيم الصّلاة. سكت باقي الجمهور يراقب الرّجال والنّساء وهي تصلّي، وهي تتوقّف عن النّداء والخطب والكلام والتّشجيع في التّجمعات لتلتقي بربّها ١٠ دقائق. هذه الصّورة، مسلمون يسجدون في مطارات يفترشون أرضها في كلّ زاوية أحيت في داخلي شعوراً فقدته منذ سنوات.
أتذكّر صديقة لي اسم ابنها "محمد"، عندما ضاع في المطار نصحها شرطيّ أن لا تنادي على ابنها بصوت مرتفع بسبب اسمه الشّبهة، أمّا البارحة فقد شاهدت "لايف" بثّاً مباشراً من خلال الفيس بوك لرجل يخطب في عدالة رسول الله عليه السّلام وعن سيّدنا بلال بن رباح رضي الله عنه.
نعم، أدرك أنّ الشّعب يدافع عن "الحريّة والعدالة" أكثر من فكرة الدّفاع عن الإسلام نفسه، ولكن من بين كلّ الأديان والمعتقدات فالإسلام وفي كلّ المواقف يجعله الإعلام الحلقة الأضعف، وأنّه دين يُولّد الإرهاب، ولكن هنا ما كان له إلا أن ينصاع في معظمه للجمهور الأمريكيّ، ويتضامن مع المسلمين ويعاملهم معاملة إنسان، لا قاتل!
طيّب، ألم ينتخب هذا الشّعب هذا الرّئيس؟ في الواقع فازت كلينتون بـ 59،299،381 صوتاً، ومع ذلك فاز ترمب بعد حصوله على 59،135،740 صوتاً، أي أنّ ترمب كان أقل في عدد الأصوات بـ 163،641 صوتاً عن كلينتون. ولكنّه فاز بسبب النظام الانتخابي الأمريكي الذي يعتمد على المجمع الانتخابي الذي يضمن للمرشح الفوز بانتخابات الرئاسة مع أقل من 30% من أصوات الناخبين، وبهذا فاز ترمب.
الشّعب خذل ترمب، في اللّحظة التي كان يتوقّع فيها ترمب تصفيقاً، نام وقام على صراخ يحيط ببيته الأبيض. هل أسرع رئيس أمريكيّ لوّث تاريخه بيديه، ولسانه؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.