وتمثل الوسلاتية البوابة الغربية لعاصمة الأغالبة رابعة الثلاث (القيروان) وتعد من أهم المناطق تاريخا حيث تصدرت مرتبة متميزة في العهد الروماني، وسكنتها الملكتين لمسة والتي لازال قصرها يحمل اسمها شمال المدينة والآخر شيدته الملكة آجر غربها يحمل اسم قصر الخيمة، وتمتاز بتضاريس ممتازة وثروات طبيعية كالمياه المعدنية والأشجار الغابية بوجود سلسلتين جبليتين يُعتبر أحدهم ثاني أعلى القمم الجبلية في تونس (جبل السرج) ويحتوي مغاور وكهوفا حجرية طبيعية كانت محل زيارة لعديد وسائل الإعلام الأجنبية والمحلية والسُياح.
فلماذا الإرهابيون من تونس ولماذا المتطرفون من تونس، ولكن أيضا لماذا المنتحرون أمام مؤسسات الدولة من تونس: غياب العدالة الاجتماعية والتفاوت الطبقي جعل المجتمع مُقسما بفوارق ثقافية منها وأخرى سياسية مقيتة، قرى ومدن تتوفر فيها كل ظروف حياة الملوك وأخرى فئات مهمشة في أحياء فقيرة وقرى نائية متصحرة شبابها يعيش وضعا مزريا وناقما على هذه الفوارق الطبقية، هذا الشباب المحدود الآفاق والتفكير الناقم طبقيا استقطبته جهات وشحنته بأفكار متتطرفة لاعلاقة لها لا بدين ولا بإنسانية في ظل غياب المسرح والسينما والفقة وشح العلوم الشرعية والصحة.. إذ كل شروط التطرف موجودة ملغومة بجهلة حامليها تنتظر من يوظفها في وقت كان بالإمكان استثمارها في العلوم والمعرفة. القمع والتجهيل والفوارق الطبقية التي تعرضت له هذه الفئة تجعله ينخرط في أي عمل عنيف لأنه مورس عليه عنفا أشد قسوة طبقيا ودينيا وثقافيا وسياسيا.
الوسلاتية هي مدينتي ومسقط رأسي وما أقبح هذه الصورة وما أصعب التعمق في تحليل تفاصيلها حين أكتب اسمها على محرك جوجل وأجد قنابل تُفجر في وجهي في أولى وثاني صفحات نتائج البحث، عناوين ومقالات تزمجر عبر وسائل إعلام رسمية وغير رسمية ( داعش الإرهاب) فبعد النزوح بحثا عن لقمة العيش أصبح نزوحا آخر لما يرونه هم الفردوس الأعلى من الجنة وما نراه نحن إرهابا وليس له علاقة بالإسلام أصلا، وما يراه باحثون نتائج سياسة الإهمال والتهميش والطبقية وقلة فرص التشغيل ومواطنه.
الإرهاب والتطرف مدينتي بريئة منه، وتاريخ سياسة الدولة القائمة على الطبقية والإهمال غارقة حتى أخمس قدميها. |
نقف هنا لنطرح السؤال: في ماذا يفكر الداعشي (الجاهل) حين يرى أهله لا يتمتعون بأبسط مقومات العيش في ما الدولة تقدم على نقل نُصب تذكارية لا فائدة منها قدرت تكلفة إنجازها مئات الملاين؟ ربما في تقديري لا يستطيع أي أحد منا الإجابة عن هذا السؤال بحكم عدم الاقتناع بما ينتهجونه من فكر وتفاوت قدرات فهمنا لكن يقول باحثون يمكن أن تكون الإجابة بالنزوح والهجرة، تليها استقطاب من جماعات إرهابية ومنظمات مشبوهة تزرع فيهم فقه الدم والإجرام باسم الدين والدين منهم بريء والسبب هو جهلهم والفوارق الطبقية في مجتمع تحكمة سلطة غير قادرة على تغيير هذه المفاهيم.
تعود بي ذاكرتي لسنوات الثمانينيات حين أذهب إلى هناك و أرى أن بعض القرى آخذة في الاندثار والزوال. (المعازيل): لا أحد يدخل هنا إلا واقتنع تمام الاقتناع بهذا الاسم إنها معزولة ومنفية حقا. في هذه المناطق قضيت سنوات من عمري بين المدرسة في الثمانينيات ومعهد المساعيد في التسعينيات الذي يبعد 12 كم أقطعهم مشيا على الأقدام ذهابا و إيابا كل أسبوع.
ذكريات تعود بي لنقل الماء علي الحمير من حنفيات بعيدة يعوضها وادي مرق الليل في أغلب الأيام والشهور ومازالت معاناة هؤلاء الناس متواصلة ليوم الناس هذا ولا حياة لمن تنادي، لا أحزاب ولا منظمات مجتمع مدني ولا الدولة نفسها تهتم لهؤلاء الصامتين المعذبين. لا أحد يصدق في القرن 21 أن هناك قرى وأرياف تمتاز بثروات طبيعية ومناطق خلابة جميلة تفتقر لأبسط مقومات العيش البسيطة كالماء منذ عقود من الزمن، حيث لم يبق هنا إلا كبار السن ممن ألزمتهم الحياة وحنين مسقط الرأس يكافحون من أجل قضاء بقية العمر في أوطانهم وبين أهاليهم.
وبصفتي المتحدث وكاتب المقال وواحد من سكان هذه المناطق التي لازلت أزورها باستمرار أود الإشارة إلي أن كل هذه الأسباب لا تثمر إلا الجهل والتطرف والنزوح والنقمة والانتقام.
الوسلاتية هي واحدة من أجمل مدن القيروان مهد الحضارة العربية والفتوحات الإسلامية، فالإرهاب والتطرف مدينتي بريئة منه، وتاريخ سياسة الدولة القائمة على الطبقية والإهمال غارقة حتى أخمس قدميها في أسباب تطرف أبنائنها وهجرتهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.