في قرية إيرانيّة تدعى كوبييه، دخل عليّ منزله مساء وكانت زوجته ثريّا جالسة مع أطفالها يتناولون العشاء. قام علي في تلك اللّحظة بافتعال مشكلة ليضرب زوجته ثريّا فيقع خلال ذلك إبريق كان على المائدة. فصرخ علي في وجهها أن تنظف ما تسببت هي به. خائفة وغاضبة في ذات الآن، تبدأ ثريّا بالتنظيف.
تذهب ثريّا صباحاً لتنظيف بيت جارها الأرمل، إبراهيم، لعلّها تجمع نقوداً كافية لتعيش مطلّقة مع أطفالها الأربعة بعيداً عن زوجها العنيف. ولأنّ المرأة هناك ليس لها حقّ في التّملّك، فحتى نقود عملها كانت يجب أن تصبّ في جيب زوجها وهو ما رفضه عليّ وأصرّت عليه ثريّا. كانت ثريّا تعرف أن عليّ يريد التّخلص منها، فهو رجل أربعينيّ يتمنّى الزواج بفتاة عمرها ١٤ عاماً التقاها صدفة، ويحتاج لأجل ذلك الزواج لمال كثير ليقبل والد الصّبية الصغيرة تزويجها منه.
تمشي ثريّاً بقوامها الممشوق في حارات قريتها مغطّاة بقطعة قماش "التشادور"، عيونها في الأرض، يمرّ بجانبها شيخ القرية فتسلّم عليه باحترام وخشية، وتكمل مسيرها. في الطّريق تمرّ بخالتها والتي بدورها تخبرها أنّ هناك خطّة تُحاك حولها للتّخلص منها "ثريّا، احذري"، وأنّ القرية تتحدّث عن علاقتها بجارها إبراهيم. تضحك ثريّا ببراءة وتمشي مبتعدة. "خالتي، هذه خرافات. لقد كَبرتِ بالسّن حقّاً".
في صباح اليوم التّالي تخرج الخالة مسرعة على صوت صراخ رجال القرية لتجد عليّ يضرب ثريّا ضرباً مبرحاً ويتهمها بانتهاك عرض عائلته وعرض القرية بأكملها. ثريّا تنتقل بين كفّه الأول والثّاني ورفسات أقدامه مصدومة ممّا يحصل. ساعة واحدة وكان شيخ القرية قد أعلن أنّ ثريّا مذنبة بإقامتها علاقة غير شرعيّة مع جارها إبراهيم، والدّليل الوحيد هو أنّها ابتسمت يوماً لإبراهيم في الشّارع، وشهد على ذلك أربعة! دخلت الجارات وهنّ يرتدين التشادور الأسود على بيت ثريّا، تلك الشابة المليئة بالحياة والجمال. وحول ذات البيت رجال مسلّحون ليمنعوا خروجها أو هروبها قبل تنفيذ حكم الإعدام، الرّجم حتّى الموت!
وقفت ثريّا بشعرها المتعرّج اللامع منسدلا على ظهرها وأكتافها، وهي التي بعد قليل ستخترقها الحجارة. بدأت الخالة بالغناء وهي تصفف شعر ثريّا، وتخبرها أن تبكي كما يحلو لها. "لا أخاف من الموت، ولكنّ الحجارة ستؤلمني"، لم تملك الخالة أيّ إجابة. بدأت ثريّا تمشي مرتدية الأسود من رأسها حتّى أخمص قدميها، على يمينها ويسارها رجال يلعنونها، ومن خلفها وأمامها جنود يمنعون الهجوم عليها "انتظروا قليلاً، ستسترجعون شرفكم بعد قليل، اذهبوا واجمعوا الحجارة".
أمسكت الخالة يد ثريّا، وقالت لها "ادعِ بكل ما تملكين من قوّة حتى يذهب الألم، الله والجنّة بانتظارك". وخلعت عنها ثوبها الأسود لتظهر ثريّا بفستان زفافها الأبيض كالملاك، وطرحة الشّعر الطاهرة ممتدّة خلفها. حفروا حفرة، ووضعوا ثريّا فيها دون أن تذرف عينها دمعة. جمع أطفال الحيّ الحجارة وتقدّم صفوف الرّاجمين الأب والذي أعلن البراءة من ابنته، وشيخ القبيلة والذي كان قد اتفق مع عليّ على التّخلص من ثريّا، وولداها. الكلّ يراقب ثريّا، نساء متشوّقات للانتقام من جميلة القريّة، ورجال متشوّقون لاسترجاع كرامتهم والتي تمّ إعلان ضياعها على يد ثريّا قبل ساعة من الآن.
بدأ رمي الحجارة، وبدأ الرجال يسترجعون "شرفهم" مع كلّ حجر كما أخبرهم الشّيخ. تحوّل لون الفستان إلى لون واقع تلك القرية، أحمر دمويّ مجرم. كانوا يتناوبون من سيصيب الهدف "رأسها" بدقّة أكثر، والدماء متناثرة حولها. شهقة خائفة مخنوقة مع كل حجر، حتّى فقدت ثريّا القدرة على الشّهيق فارتمى جسدها أمامها كقطعة قماش. لاح في ذهنها بناتها وأولادها، حمام يطير بحريّة. اختلط الدّمع بالدّم، غرقت تعابير وجهها والتصق شعرها بخدودها وجبينها. شفاه مشقّقة وقلب مظلوم وجسد مكشوف.
وأنا أشاهد ثريّا تموت، تخيّلت مئات النّساء حول العالم، ممن لا يملكن القلم للكتابة، ولا الكاميرا لنقل الصّورة. مئات النّساء يتم عقابهنّ حول العالم دون الرّجوع لقانون أو محكمة، بل القانون هو قانون العائلة أو القبيلة أو العشيرة أو القرية. لا رادع، ولا عدالة. قد نعتقد أنّ هذا يحصل فقط في إيران؟ باكستان؟ وماذا عن فناجين قهوة العربان؟ والتي تروح فيها قضايا شرف.
أتذكّر حادثة في الأردنّ قبل سنتين أو ثلاث تقريباً، عندما وجدوا فتاة مقتولة في كراج شابّ عشرينيّ. وليهرب الشّاب من العقوبة اتّهمها بإقامة علاقة غير شرعيّة معه، وأنّ على عائلتها التنازل عن حقّ محاكمته كقاتل وإلا فضحهم وفضح ابنتهم. رفعت حينها العائلة أمرها للقضاء وثبتت براءة الضّحية، وفي أيّام العزاء، رفع والدها عَلَماً أبيضاً على باب منزله "بنتنا طاهرة، وحتضل طاهرة"، في حين تختار عائلات أخرى أن تدفن رأسها في التّراب، وقد تغيّر لقب عائلتها الأخير. سأخبركم أمراً، لم يسمع أحد بالبراءة، أو لأكون أكثر دقّة، فقط علم بحكم البراءة من بحث وتابع أحداث القصّة، ولكنّ الجميع سمع عن تهمة الشّاب، وراحوا يرجمون الفتاة وأهلها بكلمات قاتلة. قتلها الشاب، وقتل المجتمع عائلتها. من المجرم الحقيقيّ هنا؟
كيف تثبت "النّفي"؟ كيف تثبت أنّ متزوجة لم تخن زوجها على سبيل المثال؟ نعم، أربعة شهود، ودلائل، نعلم ذلك. ولكن ما أن انطلقت الهمسات في مدينة ما، ولو اجتمع عشرة شهود، فهذه المرأة وقع عليها القصاص الاجتماعيّ قبل أن يقع عليها القصاص الدّينيّ. كيف بالله عليكم نصف أنفسنا بمجتمع مسلم؟ كم من جلسة نسائية تدور فيها أحاديث الأعراض والعلاقات؟ وكم من شابّ يخوّن أخته أو يشكّ في زوجته أو يحمّلها شرف المزحة مع شاب "لا تحكي معه، بقتلك!"؟
ما أخبرتكم به هو قصّة ثريّا، قصة حقيقية حصلت عام ١٩٨٦، استطاعت خالتها الالتقاء في اليوم التّالي صدفة بصحفيّ فرنسيّ تعطّلت سيارته قرب القرية، أخبرته كامل ما حدث، ليهرب قبل أن يمسكه شيخ القرية، ويكتب كتاباً أسماه (The Stoning of Soraya) ويصبح "Best seller" في العالم عام ٢٠٠٨.
تحوّلت الرواية لفيلم، تمّ تصويره في قرية أردنيّة. غضبت إيران من الفيلم بالطّبع، وكان سبباً في تغيير أحكام العديد من النّساء في ذلك العام من الموت "بالرّجم" إلى الموت شنقاً، وأقولها دائماً "صانع الأفلام، هو كاتب التّاريخ"، فقد يحدث عملاً واحداً تغييراً أكبر من العمل بحد ذاته. تمّ منع عرض الفيلم في عدّة دول غربيّة بسبب قساوة مشهد الرّجم (نعم معايير مزدوجة. مشهد من فيلم "SAW" يصل الأوسكارز بينما مشهد الرّجم مخيف لقلوبهم الرّقيقة)، بينما تمّ منع عرضه في دول إسلاميّة بسبب بشاعة المنظر والذي لا يمثّل الإسلام.
ولكن لحظة، لِمَ نخاف؟ إن كان الرّجم قصاصاً حقّاً؟ لم نخاف الحقّ، لو كان حقّاً؟ فهل نخاف الصّلاة على الملأ؟ أو الصّوم أو الزكاة أو الحج؟ فلم نخاف، من الحق؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.