لمعظمنا أخوات أكبر منه سنا، تنطلق مساراتنا في الحياة بتأثير أو احتواء وسند منهن، وأظن أن جميع الأمهات تقلن كما أمي إن الأخت الكبيرة أم ثانية. هذا عيد ميلاد أختي، التي لا تكبرني عمريا بالكثير، لكنها "كْبيرتي" كما يسمي الأخوة في المشرق كبارهم قدرا. وأريد أن أعبر لها عن ذلك، فأنا ككثيرين غيري نهمل التعبير عن مشاعرنا للأقربين إلينا. وأريد لهذه الكلمات أن تعيش أكثر مني. أن يقرأها أولادي مستقبلا، وأولاد أختي وربما أحفادنا.
لأختي اسم قوي يشعر بالأمان "اعتماد" وهي هادئة بمسحة مودة، وجميلة في هدوء رقراق، كما القدرة الرحيمة التي تسحب الليالي نحو الصباح الشفيف، والتي تمنح الأيام نحو دفئها. وأنا المحمية بها كفرخ يترعد تحت المطر لفرط ما يحبه، جزؤها، وهي كلي. يوم ميلادها ليس رقما، بل يوم آخر من السنة تتبدى فيه بركتها التي تحيط عائلتنا، فنحن نعرف ونقدر يوما بعد آخر، عاما بعد عام، أنها فرحنا ويمننا، وأن الله يحب أمي جدا عندما عوّضها عن والدتها التي فقدت وهي ابنة خمس، بأم من بطنها.
صحيح أنا وأختى نمتلك ذات الجينات فيما يتعلق بطريقة إحساسنا بالأمور، لكن بالنسبة للأشخاص هي أشد بصيرة، لكننا نملك ذات الشغف بالراديو والكلمات والكتابة والموسيقى والفن |
اعتماد، ليست أختي الوحيدة فقط، أو سندا يستحق أن أفرد له مشاعر الامتنان، بل هي الابنة التي يمكن لأي والدين أن يتمنياها، مع أن الآباء يحبون أطفالهم جميعا، وهي الصديقة التي يريد كل شخص أن يحظى بها، والشفيفة التي قد تريد أن تلتف بصفائها ولا تخشى بردا أو قيظا، والأمينة التي تصونك في سرها وعلنها كما الختم..
هي أيضا أنا كيفما لم أكن، وهي كما لم تشبه أحدا. صحيح نمتلك ذات الجينات فيما يتعلق بطريقة إحساسنا بالأمور، لكن بالنسبة للأشخاص هي أشد بصيرة، ونملك ذات الشغف بالراديو والكلمات والكتابة والكتب والموسيقى والفن، ونحن ذات القرويتين الرحمانيتين جدا وكلّية، لكنها الأصل والحسم، وأنا الثائرة، لا يقود دفتي إلى الأمان، دون جهد، سواها..
منذ طفولتها، كان على أختي أن تكون قدوة في عائلتنا. عندما كانت بعمر السادسة ناضلت مع والدي حتى تتعلم وتنجح، وذلك كان يعني أن أحصل أيضا على فرصتي بالتمدرس والحياة. أذكر أنه عندما قرر والدي أن يغادر بنا، لا أن يهاجر، من القرية إلى "الفيلاج" كان على اعتماد أن تكون العون لأمي والنبراس لنا. كنا نتحلق حول طاولة بديعة، تضعها لنا أمي وسط الدار على زربية جميلة، تنسجها الأصالة والجمال المنذورين لأكف القرويات العظيمات، تستذكر اعتماد لي ولأخي دروسنا المدرسية بينما تهدهد أخانا الأصغر أو تتحول إلى جواد يمتطيه حتى يضحك. أمي كانت تبتسم وتدعو لنا بالرضى والخيرات، وتقول إن "الأخت الكبيرة فعوض الأم" أي الأخت الكبيرة أم، وهذا حقيقي.
أيضا أذكر أنها عندما انتقلت للدراسة في مدرسة ثانوية في المدينة، لأنه لم تكن قد بنيت بعد واحدة في مركزنا القروي، كانت تعود للبيت مساء كل جمعة محملة بالهدايا لنا، العادة التي لم تنقطع حتى اليوم، فهي كانت ومازالت مدبرة عظيمة للمصروف، بعكسي.. حصلت على أشياء كثيرة للمرة الأولى من اعتماد، وفزت بجائزتي الأولى في الشعر بالمدرسة الإعدادية، عندما صححت لي قصيدتي الصغيرة عن الأرض، وما زالت إلى اليوم تصحح أخطائي بحق نفسي، وتضعني أمام كل ما لا أراه، في بهاء ودقة وراحة وأمان.
من جهة أخرى، وفي مرات معدودة، لم يكن التواجد مع أخت "نموذج" سعيدا بالنسبة لي، مررت بأوقات كان فيها ذلك مزعجا قليلا، تحديدا عندما لا أكون جيدة كفاية، لكن الجميل أن هكذا شعور وقتي فقط، وانتهى برعاية منها هي نفسها ومن والديّ، وهل هناك أجمل أو أبلغ عن الحب والتقدير من مناداتهما لنا "بنات القلب" ينطقانها بلهجتنا القروية الحارة، التي تتحول فيها القاف إلى كاف (بتثليث الكاف).
في وقت غير بعيد، مرضت أختي وتطلب ذلك أن تبقى بالفراش لفترة. بقيت إلى جانب سريرها أتعهدها، وأتوسل الله بكل ما في الروح من ضراعة وإخلاص أن يشفيها، كنت أخبره أنه موقن أكثر مما يمكنني أن أعبر عنه أن حياتي لا تعني شيئا دونها، وكان هذا دعاء لحفظي فيها، هي أنا، وأنا هي.
أمر أخير وليس آخر عما يمكن أن أتذكره أو أقوله عن أختي/الشفاء، عندما انتقلت قبل سنوات للعمل بالدار البيضاء، المدينة الاقتصادية والمزدحمة، أحاطتني برعايتها أيضا، ومنحتني فرصة أن أعيش قريبا من المؤسسات الإعلامية بالمدينة، وأتدرب ثم أعمل وأنطلق في مساري، دائما بمباركتها وبركتها. لا تنتظر شكرا، لها النصيب من اسمها.. تعتمد عليها وسلام هي، لها الأيادي البيضاء، ولها حضن الأم وقلبها، ولها الأكناف الضاوية، وما تبشّر به ريح المطر من غيث. ولي نعمتها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.