في عام ١٩٤٨ نجح شاب اسمه "چوزيف مكارثي" في الثلاثينيات من عمره في انتخابات الكونجرس الأميركي، ليصبح أصغر أعضاء المجلس سنا، بدا شابا عاديا متحمسا في بداياته، وطنيا بالمعنى الدارج للوطنية، خدم في الجيش الأميركي، مسيحيا متدينا، محافظا، حتى كان يوم خطابه أمام إحدى الجمعيات النسائية في ذكرى وفاة الرئيس الأميركي إبراهام لنكولن، فإذا به يُخرج أوراقا بحوزته ويلوّح بها مدعيا أنها قائمة تضم المئات من الجواسيس الشيوعيين يعملون بالوزارت الحكومية وعلى رأسها وزارة الخارجية الأميركية بالإضافة إلى عدد من المؤسسات الأخرى.
كانت تلك الفترة هي ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية وكتلتها الغربية بنظامها الاقتصادي الرأسمالي وبين الاتحاد السوڤيتي الرهيب والمكتسح لأوروبا بعد انتصاره على ألمانيا النازية ونشر الشيوعية وفرضها على الدول الواقعة تحت سيطرتها فيما عُرف بالكتله الشرقية.

استغل مكارثي حالة الفزع من انتصارات الشيوعية المتوالية في أوروبا على يد السوڤييت وآسيا بعد وصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في الصين بقيادة الزعيم الشهير "ماو تسي تونج"، وابتلاع نصف كوريا بواسطة الشيوعيين، ولولا التدخل الأميركي المباشر لانتصروا في كامل كوريا، وقبل ذلك وصول الاتحاد السوڤيتي إلى سر القنبلة الذرية باستخدام أحد أهم الجواسيس في تاريخ الاتحاد السوڤيتي چوليوس روزنبورغ وزوجته (تمت محاكمتها وإعدامها لاحقا).
كانت تلك الأجواء المليئة بانتصارات الشيوعية المدوية أهم دعائم حالة الرعب التي استغلها مكارثي جيدا، فواصل الضغط الشديد على المجتمع الأميركي حتى أوصل المجتمع إلى قبول تعصّبه، كانت نتيجة الضغط حالة إرهاب فكري شديدة ضد المثقفين والشخصيات العامة وليس فقط ضد الموظفين الحكوميين كما بدأت، بل وصلت إلى هوليوود قلب صناعة السينما في العالم.
ساعد مكارثي في مهمته مكتب المباحث الفيدرالية "FBI" الذي أنشأ في منتصف الخمسينيات "برنامج مناهضة التجسس" الذي عُرف اختصارا باسم "كاونتلبرو"، وكانت مهمته مراقبة الشخصيات العامة ونشر الأكاذيب |
حملة مكارثي وصلت في خطوات نجاحها إلى إنشاء لجنة داخل الكونجرس كانت مهمتها التحقيق في انتشار الشيوعية داخل الأراضي الأميركية، كانت الاتهامات بالطبع في أغلبيتها الساحقه بلا دليل، غوغائية إلى أبعد الحدود، غير منطقية ولا مدروسة وتسببت في فقدان المئات من ضحايا مكارثي وظائفهم بلا ذنب واضح.
ساعد مكارثي في مهمته مكتب المباحث الفيدرالية "FBI" الذي أنشأ في منتصف الخمسينيات "برنامج مناهضة التجسس" الذي عُرف اختصارا باسم "كاونتلبرو"، وكانت مهمته مراقبة الشخصيات العامة ونشر الأكاذيب، وممن طالتهم الاتهامات الممثل الشهير شارلي شابلن وقبلهم أسطورة العلم ألبرت أينشتاين والمناضل العظيم مارتن لوثر كينج وغيرهم مئات الأسماء اللامعة، في خلط رهيب بين الشيوعية والعمل مع الاتحاد السوفيتي بشكل واضح (روزنبورغ كمثال) وبين اعتناق الفكر اليساري والدفاع عن حقوق البشر بدون تمييز.
ساعد مكارثي في مهمته "روي كوهين" الذي قاد التحقيق مع روزنبورغ وزوجته وأوصلهما إلى الإعدام، والذي اشتهر باسم صائد الجواسيس الحُمر، مكتب المباحث الفيدرالية ساعد السيناتور مكارثي بشكل إجرامي في مهمته بتلفيق مستندات مزورة للفتك بالخصوم، كانت المكارثية وحشا حقيقيا كاد أن يفتك بالمجتمع الأميركي لولا وقوف عدد من الشخصيات اللامعة على رأسهم الإعلامي الأشهر "إدوارد مارو" والأديب العظيم "آرثر ميلر" اللذان تصديا بشجاعة للإرهاب الفكري الذي مارسه مكارثي على الجميع، وحالة الخوف والفزع التي سادت الكل خيفة أن يطالهم ما طال غيرهم ممن فقدوا وظائفهم أو تم الزج بهم في السجون بتهم العمالة.

مارو وشجاعته تجسيد حقيقي لقيمة حرية التعبير التي لولاها لتحولت الولايات المتحدة الأميركية إلى دولة بوليسية تطارد الناس وتزج بهم في السجون على الهوية كما تفعل أي دولة من دول العالم الثالث، جسّد فيلم "ليلة سعيدة وحظ سعيد" (good night and good luck) الصراع بين "إدوارد مارو" وچوزيف مكارثي، وكيف كانت الأجواء التي كان أحداها الإعلامي الحر المتمسك بقيمه والحريص على مناخ الحريات.
وحدها قيمة حرية التعبير هنا التي تصدّت لجمهورية الخوف والفزع التي كاد مكارثي أن يؤسسها، وصل الأمر بمكارثي أن استخدم خطابا دينيا مفاده أن الشيوعية دين هدفها هدم المسيحية بالإضافة إلى هدم الوطن، مجهودات إدوارد مارو وآرثر ميلر وزملائهم أثمرت عن انتهاء موجة المكارثية العاتية، وأُدين "في النهاية" ومعه روي كوهين بتهم الفساد والتزوير وتمت محاسبته داخل الكونجرس، وانتهى به الأمر بالموت مدمنا بعد أن انتهت أسطورته في نظر الناس أولا، بعد أن تيقنوا أنه ليس أكثر من شخص يكيل الاتهامات الباطلة لخصومه بلا وازع من الضمير أو الأخلاق، وبغرض تحقيق مكاسب سياسية شخصية على جثث ضحاياه. تُرى كم مكارثيا يعيش وسطنا؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.