كم خلف ليلى ركابٌ من هنا عبرتْ *** وعضَّ من لَغَبٍ نِضْوٌ على لُجُمِ!
لا أدري لم تذكرت أحمد بن سهل البلخي، وهو الذي جزم التوحيدي بأنه أحد أفضل ثلاثة أمسكوا القلم العربي، وأول من كتب كتابا خاصا بالصحة النفسية.
انشغل ذهني بتتبع أعلام هراة وغزنة وبلخ وكابل وقندهار. فمن هنا خرج الغزنويون، ومن هذه السهول انطلق أنين نايِ جلال الدين الرومي ليهزّ النفوس البشرية المغتربةَ عن عالمها العلوي.
فبعد هذه الديار جغرافياً إلا أنها تسكن ذاكرتي الحضارية أكثر من كثير من المدن التي تقلبت فيها أيامَ مَيْعةِ العمر وطراوةِ الإهاب. كنت مشتاقا لأرض سكنتْ خيالي الحضاري طويلا.
وقفت الطائرة وقوفها النهائي، وتبادر الركاب للخروج. تأملتهم ملاحظا أنهم ما بين مواطنين عائدين لبلدهم، أو زوارا أوروبيين ما بين دبلوماسي وعامل بالأمم المتحدة. ولعلي كنت العربي الوحيد على متن تلك الرحلة.
خرجت من باب المطار، فوجدتني للمرة الأولى قادرا على استعمال فارسيتي المتواضعة. لمحت رجلا واقفا عن يمين المخرج، فقلت له:
"باركنك سه كجا آست؟"
فأشار بيده إلى زقاق واصفا الطريق. وكانت تلك أولى خطواتي بمدينة كابل.
فاجأتي مدينة الإمام أبي حنيفة -جده منها- بحسن هوائها وشموخ جبالها التي تحيط بها إحاطةَ الأم ذراعها بوليدها. فالمدينة حية، قوية النبض، مليئة بالخيرات المنتجة محليا. ولعلها أحسن وأكثر تطورا وأفضل مرافق من عواصم لم تطلق فيها رصاصةٌ قط -كعاصمة بلدي- بمراحل.
ما إن استقر بي المقام حتى بدأت أسأل عن مكنونات هذه المدينة. فأنا أعرف أن للحواضر العريقة مكنونات تتكتم عليها عن أعين النزاع والمتطلعين. وكان من المكنونات التي زرت أمس الشيخ زين الدين.
لم يترك زين الله مدينته تحت أي ظرف، فلم تسخفه القنابل الأميركية ولا صراع المجاهدين على مدينته، بل ظل قابعا في ركن بيته يقرأ "مشكاة المصابيح" وتفسير الجلالين، ويترجم من الفارسية والعربية إلى لغة البشتون.
عندما قبلت يده وجلست، بادرني: "أنا منذ أربعين عاما أسبح خارج أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم". دعوت له بالصحة، وبدأ حديثنا. علمت منه أنه ترجم تفسير الرازي للفاتحة -مجلد كامل- لأن ابنه البكر طلب منه أن يشرحها له. وقدم لي كتبا مطبوعة من ترجمته. كما ترجم معاني القرآن للبشتنوية.
ومع إتقان الرجل للعربية فإنه لا يستطيع الحديث بها لعدم ممارسته لذلك، فهو يعرفها حروفا على الورق لا أصواتا على اللسان.
وعندما أزف خروجي عنه، كان الجو ماطرا شديد البرودة، فمازحني بأبيات أبي زيد السروج من مقامات الحريري:
جاء الشتاء وعندي من حوائجه *** سِتٌّ إذا البرد عن حاجاتنا حبسا
كنُّ وكيسٌ وكافورٌ وكاسُ طلاً *** بعد العشاء و(…………..) وكِسا
قلت له إن والدي -عليه رحمة الله- كان يحفظ مقامات الحريري حفظه للفاتحة، فبرقت عيناه.
ودعته وأنا أفكر في هذه اللغة العربية المغدورة من الناطقين بها، مع تشبث الناس بها حبا، لا رغبة في مال أو منصب. وسألت نفسي كم من مثقف عربي قرأ مقامات الحريري، واستمتع بأحابيل أبي زيد السروجي؟
خرجتُ للجو الماطر، والبرد القارس، وأدرتُ ناظري في الجبال الشامخة الملبدة بالغيوم، وفي الرصيف المبلل الذي تتمشى عليه الأفغانيات المتلفعات في براقعهن الزرقاء. فتعجبتُ من لقائي بأبي زيد السروجي في حواري كابل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.