كل ما حولنا رسائل تقول بأنّا سنفنى. هذا العالم الذي ورثناه من آخرين قبلنا، وكل تفاصيله يخبرنا بأننا لا شك ماضون نحو آجالنا. كل شيء يخبرنا بذلك ولكنّا لا نود الإصغاء الى تلك الأصوات، لا نحبها فهي لا تتوافق مع الرغبة المبطنة لدينا كبشر بالخلود.
الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي رجل الدين المعروف ظل يلفّ كفنه حول عنقه حتى وافاه الأجل، ربما لأنه كان يعرف جيداً بأنه وبدون هذا الكفن ستخدعه الحياة وتجعله فريسة لها كغيره وأنها ستنسيه الموت الذي سيتبعها لامحالة فهذه الحياة التي نعيشها كفيلة بأن تنسي الواحد منا مهما بلغ صلاحه الموت وتجعله يغرق فيها ولا يفكر في سواها.
ليس النورسي وحده مثالاً بل كم من صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم حفر في البقيع لَحْدَه قبل موته وصار يزوره كل يوم ليذكّره ذلك القبر بأن دنياه التي يعيشها فانية وأنها دار ممر وفناء وليست دار مقر وبقاء وأنه مهما طال عمره فيها فأنه لابد يوماً سيموت وفي ذلك أنزل الله قوله على نبيه صلى الله عليه وسلم "إنّك ميت وإنّهم ميتون" وإنّ، كما يعرف أهل العربية تفيد التوكيد أي أن الموت مؤكد بشكل لا يقبل التشكيك الموت الذي حث النبي عليه الصلاة والسلام صحابته أيضا على كثرة ذكره فقال اكثروا من ذكر هادم اللّذات ومفرّق الجماعات أي لا تنسوه لأنكم صائرون إليه والذي ترجم الشاعر حتميته بقوله "كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول".
أما نحن فكل ما مر نعرفه ولكننا لا نستسيغه نتجاهله ونمضي في زهونا وغرورنا وكأننا في هذه الحياة مخلدون نسوّف كثيراً فنقول وكأننا نضمن المستقبل سأفعل ذلك غداً أو الشهر أو العام القادم دون أن نتبعها ب "بإذن الله" حتى. والوصية التي أمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ننساها فعن ﺍﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ "ﻣﺎ ﺣﻖ ﺍﻣﺮﺉ ﻣﺴﻠﻢ ﻟﻪ ﺷﻲﺀ ﻳﻮﺻﻲ ﻓﻴﻪ ﻳﺒﻴﺖ ﻟﻴﻠﺘﻴﻦ ﺇﻻ ﻭﻭﺻﻴﺘﻪ ﻣﻜﺘﻮﺑﺔ ﻋﻨﺪﻩ" ﻳﻌﻨﻲ ﻣﺎ ﺣﻘﻪ ﺃﻥ ﻳﺒﻴﺖ ﻟﻴﻠﺘﻴﻦ ﺇﻻ ﻭﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﻭﺻﻴﺘﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﻳﻮﺻﻲ ﺑﻬﺎ، ﻭﻛﺎﻥ ﺍﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻣﻨﺬ ﺳﻤﻊ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻣﻦ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﺒﻴﺖ ﻟﻴﻠﺔ ﺇﻻ ﻭﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﻭﺻﻴﺘﻪ. ﻭﺍﻟﻮﺻﻴﺔ، ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ ﺍﻟﻌﻬﺪ، ﻭﻫﻲ ﺃﻥ ﻳﻌﻬﺪ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ ﻟﺸﺨﺺ ﻓﻲ ﺗﺼﺮﻳﻒ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﻣﺎﻟﻪ، ﺃﻭ ﻳﻌﻬﺪ ﻟﺸﺨﺺ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ ﻋﻠﻰ ﺃﻭﻻﺩﻩ ﺍﻟﺼﻐﺎﺭ، ﺃﻭ ﻳﻌﻬﺪ ﻟﺸﺨﺺ ﻓﻲ ﺃﻱ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻤﻠﻜﻬﺎ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ ﻓﻴﻮﺻﻲ ﺑﻪ ﻫﺬﻩ ﻫﻲ ﺍﻟﻮﺻﻴﺔ
كل ذلك نحن منه مستثنون فنحن لن نموت فلمَ الوصية، هكذا نفكر. والتفكير بالموت لا يعني أن نهمل الحياة أو نقصر في إعمارها ولا يعني أن نتهاون في حقوقنا منها أو نقصر في واجباتنا ولا يعني أيضاً السوداوية أو التشاؤم ففي تتمة الحديث المذكور آنفاً قول النبي صلى الله عليه وسلم "ﺃﻛﺜﺮﻭﺍ ﺫﻛﺮ ﻫﺎدﻡ ﺍﻟﻠﺬﺍﺕ، ﻓﻤﺎ ﺫﻛﺮﻩ ﻋﺒﺪ ﻗﻂ ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺿﻴﻖ، ﺇﻻ ﻭﺳﻌﻪ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻻ ﺫﻛﺮﻩ ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺳﻌﺔ، ﺇﻻ ﺿﻴﻘﻪ ﻋﻠﻴﻪ ".
أي أن ذكر الموت ليس للتعكير بقدر ما هو للتفريج وخصوصاً في حالة تشبه حالنا اليوم فالمستضعفين والمظلومين تفكيرهم في الموت معناه أن هذه الحياة التي لاعدل فيها سينهيها الموت الذي هو طريق نحو حياة عادلة تُنال فيها الحقوق ويُعاقب فيها الظالمون على ظلمهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.