لا شيءَ أدعى للشفقة من حالة فرد يفقدُ سلطانا ثم لا يدرك أنه فقده؛ بل يظل يتصرف كأنه ما زال يتسنَّمُ ذِروةَ سلطانه ومجده. مثل ملك مُنقلَبٍ عليه يصرخ -من وراء جدران زنزانته- آمرا الجنود بالتحرك لتنفيذ أوامره. ولعل هذه الصورة تتجسد -حسب ابن خلدون- في حالة المسكونين بالعصبية القبلية الذين يعيشون تحت عباءة حكم قاهر.
فالقبيلة -في بيئتها الطبيعية- بنيةٌ بدوية تقوم -في بعض تمظهراتها-مقام الدولة بمعناها الحديث. فهي تحمي أبناءها من أن يمسهم أذى؛ تتحمل دياتِهم، وتطالب بدمائهم وتحمي ممتلكاتهم وأعراضهم. وإذا شِيكَ أيُّ فرد من أفرادها انتفضت حتى تسترد له حقه أو تفنى دون ذلك:
لا يسألون أخاهم حين يندبُهم * في النائبات على ما قال برهانا
فمجرد مطالبة الفرد المستصرخ بالدليل على أنه مظلوم منقصة في العصبية القبيلة.
يصف العبقريُّ ابن خلدون استمرارَ الفرد في الافتخار بقبيلته تحت عباءة السلطة القاهرة بالـ"وسواس والهذيان". فلا معنى للنسب القبلي دون ثمرته وهي الحماية من البطش، "فثمرة الأنساب وفائدتها إنّما هي العصبيّة للنُّعرة والتّناصر، فحيث تكون العصبيّة مرهوبةً والمنبتُ فيها زكيٌّ محميُّ تكون فائدة النّسب أوضح وثمرتها أقوى".
فلا وجود لنسب زكي غير محمي. فإذا كان المستبد يرسل جنوده ليقتحموا بيت ابن القبيلة ويستَلّوه من بين أيدي زوجه وأطفاله، مثل ما يفعلون بغير القبلي فأي معنى لكون ابن القبيلة يمشي منتفشَ الريشِ في الطرقات كأنه طاووس؟ يرى ابن خلدون أنْ لا معنى لرؤية الفضل على الغير تلك، لاتكائها على دعوى يكذبها العيان. فـ"لا يكون للمنفردين من أهل الأمصار بيتٌ (يعني شرفا ونسبا) إلّا بالمجاز وإن توهّموه فزخرفٌ من الدّعاوى".
فالشرف الجيني خرافة وأمر وهمي، وما الشرف إلا العزة والمنعة. ولذا فأي ادعاء لحسب تحت عباءة الاستبداد – أو الدولة القاهرة حتى لو كانت عادلة- هو بلغة ابن خلدون "زخرف من الدعاوى".
ثم يستغرب المفكر الحضرمي كيف لابن القبيلة أن يفخر بحسبٍ غايتُه الركون والسكون والمداهنة: "وإذا اعتبرتَ الحسبَ في أهل الأمصار وجدتَ معناه أنَّ الرّجل منهم يعدّ سلفا في خلال الخير ومخالطة أهله مع الرّكون إلى العافية، ما استطاع وهذا مغاير لسرّ العصبيّة الّتي هي ثمرة النّسب وتعديد الآباء".
لقد أدتْ ظاهرة الاعتزاز بالنسب المنبتِّ عن ثمراته السياسية إلى إعاقات اجتماعية وسياسية في بعض مجتمعاتنا اليوم. ففي مجتمعاتنا مثلا ترى الفرد القبلي -الذي يعيش تحت الاستبداد- يملك نفسا نزّاعةً إلى التكبر والتغطرس في المجالس الخاصة، ومع العمال في المتاجر أو الحقول، وعند منعرجات الطرق، وأماكن ازدحام السير. لكن هذه النفس المتكبرة تذبُل وتخور عند أول احتكاك مع السلطة. فترى ذلك الفتى القبلي نفسه يُقبّل الأرجل ويبالغ في الاستكانة عند أول احتكاك مع السلطة، أو مع من فوقه. ثم لا يرى تناقضا بين تلك النفس القبلية المتأبية هنالك، وهذه الذليلة المنكسرة هنا.
اتفقتْ الأمم الراشدة على حرية الإنسان وكرامته، وبقي معظمُ بلداننا منفردا بالاستعباد. ومع ذلك ما زال القبليون داخل مجتمعاتنا الأسيرة يقولون "هذا من بني فلان، وهذا من نسل علان" |
ويجزم ابن خلدون أن هذه الحالة الذهنية الاستعلائية -المنقطعة عن دواعيها-وسواس وصدى لعزة قديمة اجتُثتْ وبقيتْ ذكراها وسواسا مرضيا: "فقد يكون للبيت شرفٌ أوّلُ بالعصبيّة والخلال ثمّ ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدّم، ويختلطون بالغِمار ويبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب، يعدّون به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب وليسوا منها في شيء لذهاب العصبيّة جملة".
ثم ينبه ابن خلدون إلى أن وسواس التشبث بالقبلية المنبتة عن ثمرتها -وهي المنعة- سنة من سنن اليهود. فقد كان لليهود سلطان ديني ودنيوي ثم انقضى "وضُربتْ عليهم الذّلّة والمسكنة وكُتب عليهم الجلاءُ في الأرض وانفردوا بالاستعباد والكفر آلافا من السّنين. ثم وما زال هذا الوسواس مصاحبا لهم؛ فتجدهم يقولون: هذا هارونيّ، هذا من نسل يوشع، هذا من عقب كالب، هذا من سبط يهوذا، مع ذهاب العصبيّة ورسوخ الذُّلّ فيهم منذ أحقاب متطاولة. وكثيرٌ من أهل الأمصار وغيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبيّة يذهب إلى هذا الهذيان."
إن "الهذيان العصبي" و"الانفرادَ بالاستعباد" الذي وصم به ابنُ خلدون اليهودَ في أيامه، يجري إلى حد كبير علينا هذه الأيام. فقد اتفقتْ الأمم الراشدة على حرية الإنسان وكرامته، وبقي معظمُ بلداننا منفردا بالاستعباد. ومع ذلك ما زال القبليون داخل مجتمعاتنا الأسيرة يقولون "هذا من بني فلان، وهذا من نسل علان" وسياطُ النخاسين تُدمي ظهورَ أولئك القبليين في ليل استبدادي سرمدي.
كان يُتوقع اختفاء قيم القبيلة وقيام دولة العدل مقامها في بلداننا. وكان يمكن للقبيلة -كذلك-أن تسُدَّ مَسدّا في مراغمة الاستبداد، والأخذ على أيدي الظلمة إذا امتدت أيديهم -من غير وجه حق-لأحد أبناء القبيلة. لكن النظام الاجتماعي القائم في معظم الدول العربية -ذات التجمعات القبيلة- نجح في تنصيب مشايخ تابعين له، يشتريهم بالأعطيات، مما حول القبيلة إلى أداة للقمع على المستوى السياسي، وللإعاقة الثقافية على المستوى الاجتماعي. فاقتصرت العصبية على الوساطات في تفاهات الأمور مثل تخفيف مخالفة مرورية، أو تجاوز طابور في مرفق حكومي. وبذا فقد تحولت القبيلة إلى نادٍ للكشافة البدوية، أو جمعية مدنية يعرف أفرادُها بعضهم بعضا، ليتناصروا في القضايا الهامشية البعيدة عن المنعة والعزة التي هي أصل قيام القبيلة بدءاً.
وبذا، فلم يبق من القبلية في هذه الحالة -كما لاحظ ابن خلدون- إلا تَعداد الآباء بلا فائدة: "فبقيت أنسابُهم العربية محفوظةً، والذريعةُ إلى العز من العصبية والتناصر مفقودةً؛ بل صاروا من جملة الرعايا المتخاذلين الذين تعبَّدهمُ القهرُ ورَئِموا للمذلة".
إن رِئْمانَ المذلةِ الذي يلاحظه أي متابع لتطورات الأحداث في واحدة من أهم الدول العربية اليوم، وقيامَ السلطات هناك باعتقال الدعاة أبناء القبائل الكبيرة دون وجود أدنى تشنج أو اعتراض لدليل على دقة ملاحظات ابن خلدون. فلا معنى للافتخار بقبيلة لا تسد مسد هيئات حقوقية تصدر بيانات على الأقل في حالة اعتقال أبنائها.
لاحظ الفيلسوف الألماني هيغل أن المواطن الحرَّ الوحيدَ في الإمبراطوريات هو شخص الإمبراطور. ويمكننا أن نضيف أن صاحب القبيلة الوحيد في بلداننا هو شخص الملك أو الرئيس، أما الآخرون -كما يقول الأحبة في السعودية-فطروشٌ وأبناءُ طروش، وإنْ عدّدوا الآباءَ وانتسبوا لقبائل بأعداد الصين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.