فأتساءل بيني وبين نفسي: أيعقل أنني لم أعش طويلا لأستطيع أن أرى؟
ماذا سأرى بعد بحق الله؟
فأنا في العشرينيات من العمر ورأيت الكثير الكثير الذي يشيب العقل قبل الشعر، عندما أجد نفسي في نقاش مع أحدهم وأقول إن الحياة صعبة بل تصبح مستحيلة أحيانا لا أجد سوى رد يستفزني لم تري شيء بعد.
الماضي كان له نصيب من حياتنا، فهو لا ينسى ولا يمسح، كل حدث يترك بصمة ويترك وجعا يترك قصة ما |
ماذا؟! والعشرون عاما ماذا تعتبر؟ أهي محصلة أرقام فقط؟ أم فترة اختبار للعبور إلى الحياة؟
لا لا، فأنا عشت الكثير حتى هرمت، نعم فأنا رأيت ورأيت وسأرى، كيف تعتبرون أن من عاش الانقلابات العربية ومخيم اليرموك ومجاعة مضايا وعمليات الطعن وحرب سوريا أنه لم ير بعد؟
حسنا ماذا عن إضراب الأسرى، ومحاولات تهويد القدس، وسعي اسرائيل لإزالة فلسطين عن الخريطة والوجود؟
حسنا حسنا، ماذا تعتبرون من رأى الطفولة تعدم، طفولة عمران، وإيلان ومأساة أحمد دوابشة وغيرهم؟
رؤية الطفولة تقتل بدم بارد أمر صعب عن نفسي، وأقف كثيرا أتأمل صورهم ويحترق قلبي لأجلهم وتنعدم رغبتي بأي شيء فتجاوز تلك اللحظة التي أرى صور أحد الأطفال يستنزف الكثير من الأشياء بداخلي، وكل حكاية طفل أقف عندها وقفة قد تطول وتطول ولا تنتهي.
اصمتوا بحق الله، لقد رأيت وعشت ما عشته حتى بت أدعو الله أن تتوقف الحياة إلى هذا الحد، وعدا عن ذلك فقد سمعنا من الماضي ما قد سمعناه من نكبة عام 1948 ونكسة 1967 والعدوان الثلاثي والانتفاضات، فالماضي أيضا قد كان له نصيب من حياتنا فهو لا ينسى ولا يمسح، فكل حدث يترك بصمة بداخلنا يترك وجعا يترك قصة ما.
وماذا سأتكلم بعد لأقنعكم بأنني ومن هم بعمري وأصغر قد عشنا وقد يصح التعبير بأننا قد تجاوزنا ما عشتم، لقد عشنا وسمعنا وما زلنا كذلك إلى أن يأتي الأجل، لقد شابت قلوبنا وعقولنا وشعرنا قبل أوانها يا سادة.
فلتنتبهوا لهذا وكفاكم!
فنتجاوز الآن تلك الأمور السياسية التي يعيشها الكبير والصغير، لنتكلم عن ذواتنا، عن أحاسيسنا، قليلا لأزيدكم اقتناعا.
ماذا تعتبرون من يرى أحلامه تتبدد كل يوم؟
ماذا تعتبرون من يرى الأشخاص المقربين به يبتعدون بخطى كبيرة متجاوزين خطاه؟
ماذا تعتبرون من يسعى ويسعى لتحقيق ذلك الحلم فيصطدم بواقع رديء بكل معنى الكلمة، لا أدري أهو الواقع أم أناس يعيشون فيه؟
وماذا عمن لا يستطع التعامل مع البشر أو مع أي قناع يتعامل بالضبط، فتارة تراهم أناسا عاديين وتارة أناسا من كوكب آخر.
ماذا عن قصص الظلم المكومة في ثنايا الحياة؟
وقصص النجاح التي أحاطها الفشل فتقلصت حتى اختفت؟
وقصص الغدر والخيانة التي نعيشها بأنفسنا أو نتعايش معها
ماذا عن الخوف الذي يكبر ويزداد بقلوبنا حتى بتنا نخاف من أنفسنا ومن أبسط حلم؟
نخاف أن نبوح ونخاف أن نجازف، نخاف أن نسعى، نخاف أن نحارب من أجل أي شيء مهما كان، باختلاف أسباب الخوف بالنهاية نخاف.
قررت الاعتكاف والانغلاق ليس بمزاجي بل رغما عني، فلا أحد يحب الهزيمة والاستسلام، كلنا نحب القوة التي تجعلنا متمسكين بذواتنا |
يا سادة، نحن عشنا أمورا ظاهرة للعيان ذكرتها سابقا
وعشنا حياة بداخلنا مختلفة عن حياة نعيشها جميعا بكافة قضاياها، فالحياة التي بداخلنا تكبر وتتسع أكبر من محيط قلوبنا حتى باتت تخنقنا وتسحب الجزء الأكبر من الأكسجين فبدأ ذلك بالتأثير على تنفسنا الطبيعي وقدرتنا على التحمل.
أترون كم من الصعب أن تعيش حياة ليست بمقاسك، تعيش حياتين: حياة معلنة ومرئية وحياة مخفية تسلب منك الكثير بالإضافة الكثير من الحياة المرئية، فلا نجد إلا أمورا تسلب منا ونحن مكتوفو الأيدي، فقد حاربنا من أجل أنفسنا كثيرا ولكن واقع الحياة أكبر عدو.
فالواقع مليء بالتعرجات، بالانحناءات، بالأسلحة غير الشرعية، فكلما قررت التحدي والصمود أمامه قررت الاعتكاف أكثر والانغلاق أكثر ليس بمزاجك بل رغما عنك فلا أحد يحب الهزيمة والاستسلام والتراجع، كلنا نحب القوة التي تجعلنا متمسكين بذواتنا.
ولكن إيماننا بالله هو الأمل الوحيد الذي يأخذ بأيدينا إلى معركة الحياة مرة أخرى، وتستمر تلك المعركة إلا أن ينتصر من هو متمسك بحبل الله ربما ننتصر في الدنيا الفانية وربما في الدنيا الخالدة.
فأرجوكم كفى فلسفة بأننا ما زلنا لم نر شيئا، نحن حقا لن نستطيع أن نرى أكثر من هذا، فالعبرة ليس بكم تعيش لكي ترى، بل تعيش وترى، متجاوزين فكرة العمر تماما.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.