ما زالت النُّظم السّياسيّة النّاظمة للعلاقَةِ بين "الدولة" ومواطنيها أهم ما يشغل الذّهن البشريّ منذ التّجربة الدّيمقراطيّة الأولى في أثينا (خمسة قرون قبل الميلاد) مرورًا بالتّجربة الرّومانيّة في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، ثم الممارسة الشّوريّة في زمن الرّاشدين ومن بعدهم، ثمّ التّجربة الديمقراطيّة في سويسرا في القرن الرابع عشر، مع بعض المُحاولات من ذات الفترة في الحكومات الخاصّة الإيطالية مثل ميلان وفلورنسي، ثم ظهور البرلمان البريطاني، وكتابة دستور الولايات المتّحدة الأمريكية.
يرو الكثيرون أنّ هذه هي أهم المراحل الّتي مرّت بها الدّيمقراطيّة المعاصِرةِ. ولا شكّ أنّ لفلاسفة اليونان الأوائل، ثم فلاسفة "عصر النهضة" في أوروبا دورًا بارِزًا في بلورة الدّيمقراطيّة على ما هي عليه اليوم.
إذا كان المرُادُ -حين التّعبير عن إسرائيل بأنها دولةٌ ديمقراطيّة- هذا المفهوم العام من الدّيمقراطيّة الاستِبداديّةِ، فقد يكون المعنى صحيحًا |
من السّهل أن نتحدّث عن الديمقراطية اليونانيّة أو الرومانيّة، ونقف على المآخذ على كُلٍّ من التّجربتين أو حتّى التّجارب الّتي بعدها، فيكفي أن نذكُر انه ورغم التّغنّي الكبير بالدّيمقراطيّة اليونانيّة، فإنّ الاستبداد الّذي مارسته أثينا في بعض مراحل حكمها يجعل من سياستها العامة سياسة سوداء، والأمر أشدّ بالنّسبة لروما الّتي كانت تعطي مواطنيها حقّ تشريع القوانين، إلا أنّك إذا قرأت تعريف المواطن في الدولة الرّومانيّة تجد عُمقَ الاستبداد والعُنصريّة والطبقيّة التي تصل حدّ الاستعباد، فالّذين لهم حقّ المشاركة هم الرومان فقط، وأمّا رعايا الدّولة الرّومانيّة في الأقطار المُحتلّة، فإنّهم ليس لهم حقّ الاقتراعِ، ولو كانوا أذكى وألمع من الرومان أنفسهم كما هو الحال مع بعضِ أهل صور اللبنانيّة.
لست بصدد مناقشة الدّيمقراطيّة في سياقاتها التّاريخيّة، ولا حتّى تجربتها المعاصرة، إلا أنّ ما يهمّني في هذه المُقدّمة أن أقول: إن الدّيمقراطيّة كانت ولا زالت اسمًا جامِعًا لشتاتٍ من المُمارسات منها ما هو أقرب إلى تحقيق مفهوم العدل ومنها ما هو أبعد، ولعلّ من أكبر المُغالطات الّتي تُصدّر للغرب، فِكرَة أن دولة إسرائيل هي الدّولة الوحيدة الّتي تُمارس الدّيمقراطيّة في الشّرق الأوسط.
وللتّصحيح، فإنّنا إذا افترضنا أنّ الدّيمقراطيّة، اسمٌ جامِعٌ لِفِكرَةِ إنشاءِ الأحزابِ وتَداول السُّلطَةِ، بما في ذلِكَ الديمقراطيّة الرومانية -على ما فيها من طبقيّة واستعباد-، والديمقراطيّة الأمريكيّة الّتي كانت "تستعبد" المواطن "الأسود"، وتمنعه أبسط الحقوق الإنسانيّة، والدّيمقراطيّة الإسرائيليّة، الّتي تستخدمها الأغلبيّة اليهوديّة الحاكمةِ لتستبدّ بإصدار قوانينَ عُنصريّة تُمرمر حياة الأقليّة الفلسطينية، وتُرسّخ مفهوم الطبقيّة المُجتمعيّة وتجعل من الفلسطينيين مواطنين غير مرغوبٍ بهم، تحت الاختبار، وتبادلهم مسألة وقت!
أقول: إذا كان المرُادُ -حين التّعبير عن إسرائيل بأنها دولةٌ ديمقراطيّة- هذا المفهوم العام من الدّيمقراطيّة الاستِبداديّةِ، فقد يكون المعنى صحيحًا.
وبالعود على استبداد "الديمقراطية الإسرائيليّة"، فيحسُن أن أبدأ بالكلام على مُداخلة تاريخيّة لـ "ظهور الديمقراطية الإسرائيليّة".
يطرح الباحثون الإسرائيليون ثلاث نظريّاتٍ لأسباب بروز "الديمقراطية الإسرائيليّة".
فأمّا الرأي الشّائع، فهو أنّ الآباء الأوائل للمشروع الصّهيونيّ كانوا قد جاءوا من دولٍ غربيّةٍ وبذلك تأثّروا بنُظمِ الحُكم من تَداولٍ للسُّلطَةِ، وحريّة التحزُّب والتعبير عن الرّأي… ويعترض آخرون على هذا الرّأي بالقول: إن أكثر الصّهاينة الأوائل جاءوا من دول شرق أوروبا مثل الاتحاد السوفيتي، بولندا، بلغاريا، النّمسا، أو من ألمانيا النّازية ولم يأتوا من بريطانيا أو فرنسا!
وأمّا النّظريّة الثّانية، فترى أنّ أساس "الديمقراطية الإسرائيليّة"، مأخوذٌ من التوراة وتحديدًا من شروحها في "المشناة" و "الجمارا". وقد اعتُرِضَ على هذا الرأي بأنّ "التناخ" لا يحتوي أي إشارةٍ إلى حُكمٍ ديمقراطيٍّ، بل يذهب المُعارضون لهذا الرأي مدىً بعيدًا عِندما يقولون أنّه لو طُبّق الحكم الملكي لنبيّ الله داوود أو ابنه نبيّ الله سُليمان (كما جاء في سفر الملوك الأول، و سفر الملوك الثاني) لأفرز الواقِعُ حكمًا مَلَكيًّا دكتاتوريًّا.
وبناءً عليه اقترحَ (شلومو أفنيري) في مقالٍ له بجريدة (هآرتس النسخة الإنجليزية) أنّ الأقرب إلى المنطق بادّعائه هو أنّ اليهود في "الشتات" كانوا يُمارسون الدّيمقراطيّة في واقِعِ حياتِهم، فحينَ يتناقشون عن بِناء كنيسٍ أو مقبرةٍ.. فإنّهم يفعلون ذلِكَ على طريقة اليونان الأوائل، والغريب أنّه ضرب لذلك مثالا، مُدنًا عربيّةً، مثل القاهرة والدّار البيضاء…
والّذي يبدو لي أنّ هذه الأمور الثّلاث مجتمعةً هي الّتي صنعت "الديمقراطية الإسرائيليّة" الموجودة اليوم. أي ما رجّحه أفنيري، بالإضافَةِ إلى الرأيينِ الأوّليين:
فالجيل الصّهيونيّ الأوّل عايشَ الديمُقراطيّة الغربيّة في بدايةِ تَشكُّلِها، أي حينَ كانت عبارة عن وجود للأحزابِ، وتداولٍ للسُّلطَةِ، ومَديَنَة المؤسّسات الحكوميّة بدلا من تديينها… عايشَ وعاينَ ديمُقراطيّاتٍ تفتقر إلى مفهوم المواطنة، ولم تُطوّره، بل كانت العُنصريّة مستفحِلةً في الجانب البشري لتلك المُمارسات الدّيمقراطيّة، وكانت الطّبقيّة الاجتماعيّة (حتّى في الحالة السوفيتيّة) ما تزال مستفحلة.
هذه هي الدّيمقراطيّة الّتي عاشها الصّهاينة الأوائل، لذا، فإنّهم قبلوا الدّيمقراطيّة كَنِظامِ حاكم للدولة الكولونياليّة الّتي ستنشأ في محيطٍ عربيٍّ، وفي أذهِانِهم أنّ الدّولة الدّيمقراطيّة لا تتعارض مع الطبقيّة الاجتماعيّة، بل ويُمكن أن يكونَ بعضُ المواطنين فيها غيرُ مُكتملي المواطنة، وإنما يكونوا هامشًا مُكمّلاً لمن هم في المركز أو خاضع للامتحان والتّجربة.
ولا شَكّ أنّ هذا النّمط من التّفكير قد تفشّى فِعلاً في المجتمع الإسرائيليّ حين النّشأة، حيثُ ظهرت فيه طبقيّة واضحة، على رأسِها اليهوديّ الغربيّ (الإشكنازيّ) ثم اليهوديّ الشرقيّ (السفاراديّ) وفي كل طائفةٍ منهما طبقات، ثم العربيّ، وهذا أيضًا حاولوا أن يجعلوهُ طبقاتٍ ومراتب، فقُسّم المُجتمع العربيّ الفلسطينيّ إلى مُسلم ومسيحيّ وبدويّ ودرزيّ!
وأمّا العامل الثّاني الّذي أسهم في تشكيل "الديمقراطية الإسرائيليّة" فهو (التّناخ)، ولا شكّ أنّ الصّهيونيّة الدّينيّة، تتبنّى إلى يومنا هذه الدّيمقراطيّةِ، ولعلّ أخطر ما يتعرّض له الفلسطينيّ في الدّاخل الفلسطينيّ هو هذا التّصوّر التّلموديّ للديّمُقراطيّة، فإنّ الأحزاب الصّهيونيّة الدّينيّة والاستيطانيّة متمثّلةً في (البيت اليهوديّ) وبعض أعضاء الأحزاب اليمينيّة الأخرى، كانوا وراء الدعوة إلى تبديل قوانين أساس وضعها الجيل الصّهيونيّ المؤسس منها، انّه قدّم في تعريفه للدولة الكولونياليّة الناشئة، الديمقراطيّة على اليهوديّة، وأمّا الأحزاب الصّهيونيّة المُتدينة، فإنّها طالبت باعتبار إسرائيل دولة (يهوديّة – ديمقراطيّة)، أي أن أي قانون أو أي تفسير لقانون قائم ينبغي ان يُقدّم "الأسس" اليهوديّة على الأُسس الديمقراطيّةِ، وإذا كان سفر الملوك الأول والثاني، سيولّد دولة دكتاتوريّة كما ذهب إلى ذلك باحثون يهود فضلاً عن غير اليهود، فإنّنا بإزاءِ محاولةٍ لإعادةِ صياغَةِ "الديمقراطية الإسرائيليّة" بما يتلاءَمُ مَعَ "ديكتاتوريّة" التلمود العبرانيّ.
ويفسرُ هذا ويؤكّدهُ الكمّ الهائل من القوانين الّتي كان هدفها الرئيس التضييق على الفلسطينيين في الدّاخل الفلسطينيّ، وسلب انتمائهم لعمقهم التاريخيّ والعقائديّ الفلسطينيّ، وتضييق مساحة حريّة الانتماء للأُمّتين العربيّة والإسلاميّة، بما يتطلّبه هذا الانتماءً من ولاءٍ عقائديٍّ وقوميّ.
إنّ معركة القوانين العُنصريّة التي جاءت لتميّز المواطن اليهوديّ وتتعامل مع العربيّ بعنصريّة وطبقيّة ليست جديدةً، وليست وليدةَ السّنوات الأخيرة، بل نشأت مع تشكّل هذا الكيان السّياسيّ، وإن كانت قد ازدادت حدّتها ووتيرتها في السنوات الأخيرة (مع صعود التيار الصّهيونيّ المتديّن).
إنّ "الدّيمقراطيّة الوحيدة " في الشّرق الأوسط هي في الحقيقَةِ أبعدُ دولةٍ عن الدّيمقراطيّةِ، فإنّها تتعاملُ مع مواطنيها باضطهادٍ دينيٍّ، واجتماعيّ وقوميّ |
ومن أمثلة هذه القوانين العُنصريّة في سياقاتها التّاريخيّة، قانون أملاك الغائبين لعام (1950) الّذي اعتبر أنّ كل العقارات الّتي لا يعيشُ أصحابها -الفلسطينيونَ- عليها تعتبرُ ملكًا للدّولة، هذا ولو كان أهلها يعيشون، قريبًا منها، أي في قريةٍ أو مدينةٍ أخرى مجاورة، كما هو الحال مع أهالي قرية (شعب) الجليليّةِ، الّذينَ هجّروا من بلدهم إلى قرى مجاورة، ولما عادوا إليها بعد صدور القانون، عادوا إلى بيوتهم بعقود إيجار لا عقود تمليك. وذات الأمر حدث حينَ هُجّر أهالي قرية (اللجون) إلى أمّ-الفحم، فإنّهم فقدوا ملكهم لعقاراتهم في (اللجون)، لأنّهم لم يكونوا فيها وإنما كانوا يعيشون على بُعد أربعة كيلومترات، في قرية أم-الفحم أنذاكَ.
ومن هذه القوانين العُنصريّةِ، قانون (العودة) عام 1950 أيضًا، فإنّه يُعطي ايّ يهوديّ في العالم حقّ العودة إلى "أرض الأجداد" التي كان عليها "آباؤه" قبل ثلاثة آلاف عام، بينما يمنع الفلسطينيّين من العودة إلى قريتهم الّتي تبعد عنهم بضعة كيلومترات، بل حدث في حالاتٍ أنّ المحكمة حكمت بعودة أهالي قريةٍ ما إلى قراهم، (كما هو الحال مع قريتي إقرث وكفر-برعم)، إلا أنّ السّلطات رفضت تطبيق هذا القرار رفضًا باتًّا.
ومنها قانون (التّخطيط والبناء أو التنظيم) لعام (1976)، ومنها التعديل الوارد على قانون المواطنة (2003)، وقانون "مناهضة الإرهاب" (2014)، ومنها قانون "يهوديّة الدّولة" (2014). وما تزال القوانين العنصريّة والاستبداديّة الّتي تتعارض مع ألف باء الدّيمقراطيّة تُسَنُّ في إسرائيل، حتّى لحظة كِتابَةِ هذه السّطور. بل لقد جمَعَ بعضُ الباحثينَ القوانينَ العُنصريّةَ الّتي ترسّخ الاستبداد الدّيمقراطيّ، فوصلت إلى (72 قانونًا)، ولا يُمكن تفسير سنّ هذه القوانين إلا في إطار ما مضى من تشخيصٍ للواقِعِ السياسيّ في إسرائيل.
إنّ "الدّيمقراطيّة الوحيدة " في الشّرق الأوسط هي في الحقيقَةِ أبعدُ دولةٍ عن الدّيمقراطيّةِ، فإنّها تتعاملُ مع مواطنيها باضطهادٍ دينيٍّ، واجتماعيّ وقوميّ، وليس أدلَّ على ما ذكرنا من تصريح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في الانتخابات الأخيرةِ، حيثُ حذّر المواطنين اليهود من أن العرب يتدفّقون إلى صناديق الاقتراع، أي أنّ وصولهم للصناديق يشكّل تهديدًا لإسرائيل ذاتها!!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.