اليوم السابع:
في الحرب تتوصد علاقتك اللامفهومة مع هذه الأرض، تراها تختبأ في ملجأ قلبك مرتعدة، وتراك تأخذها بين ضلوعك، تهدهدها، تُغني لها دقات قلبك، تُطمئنها بأنك لن ترحل مع الراحلين، وأن رحيلك عنها لن يكون إلا فيها وإليها، وأن ذلك الرحيل هو ذروة العودة نفسها، شعلة الاندماج بين دمك النازف ولُب نبضها، تُهدهدها، تأخذها بين ضلوعك، تُطمئنها، تُسرُ لها أن نار العيش فيها هو طعم الحياةِ اللذيذ الذي لا يفهمه أحد، وتُسر إليها بأن دمك لن يروي عطشًا غيرها، وأنك باقٍ وإن رحلوا، وإنكما وحدكما معًا في الموت والحياة جسدٌ واحد، ونبضٌ واحد، وأن رحيلك عنها، ما هو إلا عودةٌ من نوعٍ أقوى، ووفاء لعهدٍ مُقدس، لِحبٍ لا يفهمه غيركما سواكما.
مارستُ طقوساً روحانية مع كل شيء يخصني، وأعدتُ قراءة التواريخ التي كتبتها في الزوايا والتي لا يمكن أن تظهر لأحدٍ سواي. |
رحلوا، بقِيتُ هنا أُهدهد الطفلة المسكينة، بقيت وحدي، أدار أبي سيارته ركبوا جميعًا، توجهوا للبلد، لمركز المدينة، وأنا هنا توجهت لغرفتي، اطمأننت على أشيائي، احتضنت كُتبي ومسحتُ بيدي على سريري، جلستُ أمام مكتبي، مارستُ طقوسًا روحانية مع كل شيء يخصني، تفقدتُ كل خربوشةٍ خربشتها أقلامي في زوايا البيت، وأعدتُ قراءة التواريخ التي كتبتها في الزوايا والتي لا يمكن أن تظهر لأحدٍ سواي، هدأت الطفلة، ابتَسَمَت مع تنهيدةٍ تُشبه تنهيدة طفلٍ نام بعد بُكاءٍ مرير.
(3)
اليوم الثامن:
في الحرب!
يغدو استيقاظك حيًا وسط معمعات البرابرة ودكهم شيئًا تُحدث عنه، تغدو نجاتك إنجازًا تحتفي به، معجزة تنبهر منها، تتحس نفسك صباحًا، بعد أن أخذك التعبُ ليلًا إغماءً وتجدك لست مبللًا بلونٍ أحمر، تشعرُ بالمعجزة حرفيًا، بينما تقف على قدميك وتجدك تسير وتتنفس، تنظر للتلفاز الذي لا ينام أبدًا وترى من هم بعمرك غارقون بدمائهم، وذاك فقد حبيبتيه، وذاك فقد قدميه، تنظر من الشباك وترى بيت جارك المقابل وقد اختفت ملامحه التي كنت تعهدها، ومع ذلك أنت حي، كانت ليلةً ساخنة، ليلةً حمراء، وأنت نجوت مرةً أخرى، تقولها لصديقك الأجنبي بشيءٍ من المُفاجأة والاستغراب: “أنا على قيد الحياة”
كنت أؤمن بفكرة التصالح مع الموت، وكنت قد تصالحت معه واستهنت به وضحكتُ مِنهُ، وكنت قد نجوت. |
كانت ليلةً ساخنة وحمراء، سمعتُ جارتنا وهي تصرخ وتقول لزوجها وهو تحت الأنقاض “ردد الشهادة يا توفيق” وتظل تقولها بأعلى صوتها، “تشاهد ع روحك يا توفيق” كان صوتها مبحوح ومسكونٌ بالهلع، يا الله كم بلغ بها الحُب مبلغه، يا الله كما تريد أن تطمئن عليه أنه سيكون هنالك في مكان مُريح، وكأنها تعلم أن رحمة الله لن تقف حائلًا أمام إنسان ختم آخر أنفاسه بترديد “لا إله إلا الله”.
كانت ليلةً حامية، ساخنة، حمراء، وكنت قد نجوت من الموت مجددًا في الصباح. وكان يُصر صديقي البريطاني بأن أحاول قدر الإمكان في كل يوم أن أعده أن أتلاشى الموت قدر الإمكان، كان يؤمن بأن العالم جيد بوجودي، كان يؤمنُ بي، ولم أكن اؤمن بنفسي، لكنني كُنتُ اؤمن بفكرة التصالح مع الموت وكنت قد تصالحتُ معه واستهنتُ بهِ وضحكتُ مِنهُ، وكنتُ قد نجوت.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.