يكفي أن تجلسَ ساعةً مُستمِعاً لإذاعةٍ إخباريةٍ، أو مُتابعاً لنشرةِ أخبارٍ تلفزيونية حتى يبدأ صدرك بالانكماش شيئاً فشيئاً إلى أن يتصدّع قلبُك. ثمّ لا تلبث حتّى تبصُق على يدَيكَ دماً. تنظُرُ إليه، وتُدرِك: "أرى العالمَ بينَ يديّ. العالمُ كلُّه يقطُر دماً". رُبَّما إن تأمَّل الواحِد فينا أكثَر، فإنَّه ينصَرِفَ عن التفكير بالصُّورة الداميةِ على أرض الواقِع كما تنقُلُها وسائل الإعلام، كي يُفجَعَ بالحرب الدَّائرة في نفسِهِ. فَفِي لحظة صفاء، تُبرِزُ الحقيقَةُ أنيابَها، فلا يلبثُ أحدُنا بعد ذلك أن ترتعِد فرائصهُ ويُصيبَهُ اليأس فجأةً. فإنَّ الدّم لا يُغرق العالم الخارجي فحسب، وقَيحُ الكراهيةِ يُلَطّخُ أولاً نفوس البَشَر قبل أن يُلَطّخوا هُم بهِ وجه الواقِع.
قيح الكراهية يُلطخ أولاً نفوس البشر قبل أن يُلطخوا هم به وجه الواقع. |
يخطو كافكا خطواتِهِ الأولى في عالم الحلّ: العالم الطوباوي. فتتكشَّفُ مع خطواتِهِ معالم اليوتوبيا الجديدة. الكهرباء، شرارة الحضارة. شرارةُ التفوُّق والطغيان البشريّ. في عالمِ كافكا، لا كهرباء. لا تكنولوجيا! رُبَّما أسَرَّ كافكا في نفسِهِ: "قد يكُون هذا حلُّ كُلِّ شيء!". ولكن، في اللحظة ذاتها يلتمِعُ سؤالٌ وجوابٌ في ذهنِهِ: "هل كان الإنسانُ قبل الكهرباء مُسالِماً وادِعاً، أم مُحارباً شرِساً؟ مُحارباً شرِساً بالطبع!". عالمٌ بلا كهرباء ليس عالماً طوباوياً بالكامِل.
ما معنى هذا كلِّهِ؟ ربَّما لا يحتاجُ المعنى مزيدَ توضيح. الحربُ بيننا باقيَةٌ ما بقينا! هيَ أشبَهُ ما تكون بالشَّهوة، كشهوةِ أحدنا للطعام مثلاً. فبعدَ وجبةٍ دسمةٍ، أو حربٍ عالميةٍ طاحنةٍ، نشعُرُ بالشّبع والاكتفاء. لكنّ الجوع لا يلبثُ أن يعود. أو هِيَ، ربَّما، أشبهُ بالغريزة، كغريزة الشهيق والزَّفير. نفعلُها دونَ وعيٍ أو تفكير. أو لعلَّها تكونُ لوناً من الإدمان المَرَضيّ الذي لا دواء له.
تأكلنا العواصف رغماً عنا، فنتنقل بين شبعٍ وجوع. بين سلمٍ وحرب.. وبين هذا وذاك، تنطفىء أرواح، وتسيل دماء، وتنكسر قلوب، وتبكي آمال مرارة الخيبة. |
في كُلِّ الحالات، هي جًزءٌ مِنا. ولهذا، في رأيي، لم يُطِق كافكا صبراً في عالمِهِ الطوباوي، وما لبِثَ أن قرر العودةَ إلى العالم الواقعي شوقاً، ربَّما، إلى شاطئِهِ الصاخِب. تركَ الطبيعة الخضراء، والفتاة الحسناء، والهدوء اللذيذ، واختار أن يأكُلَ التُّفاحة، مرةً أخرى، أسوةً بأبيه. في الحقيقة، لا جَرَمَ عليه، وليس من العَدل لومُهُ، فهُو لن يستطيع تغيير تلكَ الطِّينة التي جُبِلَ مِنها. قد ذهَبَ عنهُ الشَّبع، وعاد الجوع. لا حيلةَ لهُ في ذلك. يقول موراكامي، مُلخِّصاً المشهد: "القدَر كعاصفة رملية صغيرة لا تنفك تغير اتجاهاتها ، لكنها تلاحقك. تراوغها مرة بعد أخرى لكنها تتكيف!"
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.