قلت مرة لصديق تركي أثناء مرورنا بإحدى ساحات إسطنبول الكبرى: أنا لا أقلق على بلد فيها هذه المساحات المفتوحة الواسعة في مدنها الكبرى.
لم تكن هناك معجزات في المشهد التركي الرافض للمحاولة الانقلابية، فقد قام المجتمع بدوره وقامت الدولة بدورها. ولأن سياق الدولة مختلف لحد كبير بينما سياق المجتمع متشابه وفي ظني أنه ليس هناك أشبه بالمصريين من الأتراك في طبائعهم وثقافتهم لولا حاجز اللغة، حتى إن سيدة مسنة قضت عمرها بين القاهرة وإسطنبول أنكرت علي مرة أن أسألها عن الفارق بين الثقافتين معتبرة إياهما ثقافة واحدة- قامت المساجد والأوقاف التركية بدورها لحماية اختيار الناس بينما المؤسسات الدينية الرسمية سواء الأزهرية والكنسية كانت إحدى ركائز تحالف الانقلاب المصري، واعتبر المجتمع المدني التركي الانقلاب استدعاءً لتاريخ قاتم لا ينبغي استعادته بينما استدعى قطاع من المجتمع المدني المصري التدخل العسكري رغم أن آثاره الكارثية الهائلة لم تفارق واقع المصريين طوال العقود الستة الماضية من الحكم العسكري. كان الدرس المصري ملهماً للأتراك بينما آثر نفر من الشباب والشيوخ الداعمين للانقلاب المصري أن يكونوا عبرة لمن يعتبر ومن لا يعتبر. ورغم ذلك لا تبدو المسافة بين النيل والبوسفور أو بين ضفتي المتوسط هائلة وقد يقطعها سباح ماهر في فترة وجيزة لو صلحت الفكرة والنية وتحقق العزم.
مناط التجديد الفقهي يتأتى من قدرة الفقه على أن يستجيب للتحديات التي يفرضها الواقع والتاريخ في زمان ومكان معينين على الجماعة الإسلامية وأن تكون هذه الاستجابة مما يحفظ مصالح الإسلام والمسلمين |
في مصر كما في غيرها من بلاد الثورات لم تكن سجالات الإسلام والعلمانية لتغيب عن مشهد الثورة فتخط خطوطاً مزدوجة على خط الانقسام الأصلي للثورة والثورة المضادة. جمعت الثورة المصرية كما الانتفاضة التركية ضد المحاولة الانقلابية الفاشلة بين الإسلاميين والعلمانيين وتصالح هؤلاء وأولئك مع الشعارات النضالية التي لا تخلو من مضمون ديني مثل الهتاف الأشهر "يا الله بسم الله الله أكبر". ولعل السبب يعود لطبيعة الأوضاع الاجتماعية التي حرصت أنظمة الاستبداد العربي على جعلها بعيدة عن روح الشريعة حتى على مستويات السلوك والعادات والحياة اليومية بحيث يكون الانفصام في الواقع لا عن طريق الهجوم المباشر على الإسلام كعقيدة ونظام حياة حتى لا يستثير ذلك دافع التجمع والمقاومة -كما يقول المستشار طارق البشري- "إنما كان الأسلوب الأكثر نجاحا هو تغيير الأوضاع الاجتماعية وأنماط العلاقات بين الناس بطريقة تجعلها قائمة على تعارض مع تصورات الشريعة الاسلامية وأحكامها وتغيير سلوك الناس وعادات العيش وأساليب الحياة اليومية بما يقيم التعارض بين هذه الأساليب وأحكام الشريعة الاسلامية.. وقد جرى هذا الأسلوب لا بطريق الإقناع وتبادل الرأي . ولكنه جرى في الأساس بالترويج والدعاية والإغراء وإثارة نوازع التقليد والمحاكاة وذلك في أساليب المأكل والمشرب والملبس والمسكن وعادات المعيشة.
ولما استتبت قاعدة اجتماعية من هذه العادات والأساليب ونماذج السلوك، بدأ يظهر التعارض بينها وبين فقه الشريعة وفكرها وبدأ الفقه الإسلامي يحاصر بين بديلين إما أن يعترف بهذه الأساليب والأوضاع حتى ولو كان ذلك على حساب الشريعة وأصولها العامة وإما أن يُتهم بالجمود والعجز عن ملاحقة الواقع والتطور، ولفظ التطور لفظ لا يدل على مجرد الحركة والتغيير ولكنه يوحي بأن الحركة والتغيير يجريان للأحسن والأرقى في مدارج الارتقاء والعمران البشري والحضاري.
ومناط الحكم على الفقه بالتجديد لا يتأتى من قدرته على ملاحقة مثل تلك المظاهر، ولا يتأتى أيضاً من قدرته علي مخالفة أصول الشريعة الإسلامية العامة التي أتت بها أحكام القرآن والسنة، ولكن مناط التجديد الفقهي يتأتى من قدرة الفقه على الاستجابة للتحديات التي يفرضها الواقع والتاريخ في زمان ومكان معينين على الجماعة الإسلامية وأن تكون هذه الاستجابة مما يحفظ مصالح الإسلام والمسلمين. (مجلة الأزهر ربيع الآخر 1435 هجريا، فبراير 2014 الجزء"4″ السنة 87 مقال بعنوان "الشريعة الإسلامية خصائص الثبات والتغير")
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.