عندما أخبرتني والدتي عن الحجاب "شو رأيك تبدي تفكري بموضوع الحجاب؟"، رحت أبكي. كنت أتدرّب حينها التّايكواندو مع أخوتي وكانت أيّام تفصلني عن المعركة التّي ستهديني الحزام الأسود. "كيف سألبس الحجاب؟ وهل سيتبدّل مع الحجاب مُدرّبي؟ وإذا تغيّر فهل عليّ ترك اللّعبة؟ والحزام.. ؟؟ وصلت للأسود ولا ألبسه؟".
نعم لبست الحجاب في سنّ مناسب ولكن من حولي كنّ ما زلن يخترن الفساتين والتّنانير لحفلات نهاية العام ورحلات المدرسة وحفلات أعياد الميلاد التي يقمنها في صالونات منازلهنّ، وخاصّة قريباتي ممن يعشن في الغرب. لبستُ الحجاب الكامل قبل أن أذهب لرحلة العمرة الأولى في حياتي. أتذكّر كنت أبحث مع أمّي في سوق رام الله عن عباءة سوداء لرحلتنا، ولم أجد ما يناسب حجمي وعمري، كان كلّ شيء أسوداً وبشعاً وكبيراً وأمتاراً من القماش لا أعرف أين أذهب بها. قلت لوالدتي حينها إن لم أجد ما أريد فلن أرتدي عباءة. مرحلة انتقالي من مُراهِقة كانت تمتلك ثياباً زاهية الألوان وخفيفة لفتاة لا تجد سوى اللّون الأسود لترتديه كان تحدّياً مميتاً في ذلك الوقت. لم يكن هناك في السّوق ما نجده الآن من أنواع وأشكال وخيارات متعدّدة، مريحة وجميلة.
لا أدري كيف انتقلتُ من تلك الفتاة التي كانت ستضحّي بحجابها في سبيل ارتداء ملابس جميلة، إلى فتاة ترتدي الحجاب وتتعمّد الظّهور به في أماكن يندر تواجده فيها. كيف انتقلت من فتاة كانت تصف نفسها "باللّؤلؤة" التي يجب أن تختبىء إلى فتاة تقول لذات الشّاب، لا ألبسه خوفاً من شهوتك بل تقرّباً لله.
مع كلّ تجربة مماثلة، أُدركُ أنّ البعض بينه وبين الآخرين حجاب يختلف عن حجاب الرّأس، أي مع أو بدون حجاب من لا يستطيع تكسير الحواجز، فاللّوم على نفسه، وليس على الحجاب |
لا أدري كيف انتقلتُ من فتاة تلوم صديقتها عندما يعاكسها شابّ في الشّارع بسبب ملابسها الضّيّقة إلى فتاة تتصل بالشّرطة وتقضي ساعات في المركز مع شابّ عاكس فتاة مرّت بجانبه، لا أنا أعرفها ولا هو يعرفها. يبدأ تبريره لمدير المركز "سيدي، كانت البنت لابسة… بعيد عنّك"، فأقول له "مش شغلك شو لابسة! شغلك عيونك وين يروحو" وكما يقولون "الشّيطان في عقلك وليس في جسد المرأة". وحصل هذا فعلاً حتّى تحمّل الشّاب غرامة ماليّة وذهب كلّ منّا في سبيله.
صدقاً ليس لديّ كتيّب يوضّح كيف ينتقل الإنسان من ضِفّة الشكّ في قضيّة دينيّة ما أو عدم حبّه لها، إلى ضفّة اليقين في حبّها والرّغبة في حمايتها.
ليس سهلاً أن تخفي الفتاة معالم جمالها. شعرها الحريريّ الأسود، أو تسريحتها الجديدة، أو لون شعرها البنيّ أو أن تخفي رقبتها الطّويلة التّي تغزّل فيها شعراء كلّ اللّغات. ولا أن تخفي جسدها الذي تهتمّ به كلّ يوم بمساحيق طبيعيّة أو تجميليّة أو عطور أو علاجات طبيّة لتبقى رشيقة. ولكن من تختار ذلك، من تختار أن تخفي كلّ ذلك، هي مؤمنة قويّة.
وحتّى لا تخرج كلماتي عن سياقها، الإيمان لا يكون فقط بارتداء الحجاب، فنحن كذلك نعرف نماذج لا تلبسه وتتألّق في الكثير من المجالات. ولكن من تختار أن تلبسه، ومن تحتضن مفتاح افتخارها به، فهنيئاً لها انتصارها في تلك المعركة.
في مهرجان اسطنبول للأفلام السّياحية كنت المخرجة المحجّبة الوحيدة، وقفت على المنصّة أخذت الجائزة ونزلت. كنت قد اخترت ارتداء تصميم صديقتي بالنّقوش الفلسطينيّة، لباس أنيق ملوّن خفيف. الحضور كان متألّقاً، والجميع على أعلى درجات الاحترام والرّقيّ. بعد انتهاء مراسم الاحتفال، بدأت سهرة التّعارف، لم يعرف بعض الجموع كيف ستكون ردّة فعلي عندما دعوني لطاولتهم للعشاء، أو عندما طلب مدير المهرجان أن يلتقط صورة تذكاريّة معي وأنا أحمل جائزة فيلمي. ولم يعرف مصّور الحفل هل يحاول التقاط صور عفويّة لي أم سأشعر أنّه يطاردني وأطلب منه التّوقف. ما ألبسه، حجابي، وضع حاجزاً شفّافاً أمام من يتعامل معي في تلك اللّيلة، فما كان منّي إلّا أن أمسكت جائزتي ورحت أكسّر كل تلك الحواجز. فأذهب للمدير وأشكره على المهرجان، وأطلب من المصوّر أن يريني الصّور وأبدي إعجابي بعمله، وأجلس مع الجموع أتناول العشاء وأخبرهم موقفاً مضحكاً بعيداً عن الحجاب والإسلام.
حينها، ومع كلّ تجربة مماثلة، أُدركُ أنّ البعض بينه وبين الآخرين حجاب يختلف عن حجاب الرّأس، أي مع أو بدون حجاب من لا يستطيع تكسير الحواجز، فاللّوم على نفسه، وليس على الحجاب. النّقص ليس في الحجاب.. وأرفقت لكم هذا المثال لأظهر أنّنا جميعاً نمرّ بمواقف صعبة عندما نخرج من محيطنا الإسلامي، ولكن هنا يأتي التّحدّي.
أنا لست بمؤمنة قويّة بشكل عام، أنا مجاهدة كغيري. أجاهد أخطائي، أرفع زلّاتي، أقاوم وسوسات الشّيطات كلّ يوم وتنتصر عليّ أحياناً. يكفي أن تسمع إحداهنّ من زوجها "ننزل شرم الشّيخ لشهر العسل؟" فتكون أوّل فكرة تمرّ بأذهان الكثيرات "انت بدك تسبح، طيّب أنا شو أعمل وقتها؟". القوّة صفة كبيرة لا أحملها كما تستحقّ أن تُحمل، ولكن في قضيّة الحجاب، ولِما رأيت أنّ بعض النّفوس ضعيفة في مدح ذاتها لارتدائه، أقول "أنا مؤمنة قويّة! تخلّيت عن الكثير من المتع والرّفاهيّات لأرتدي الحجاب. تبرّعت بالكثير من قطع الملابس الرّائعة التي لن تنفعني في الخارج. وفي الصّيف أذوب أحياناً تحت أكمامي الطّويلة. أنا قويّة لأنّني فتاة تعشق الجمال، تعشق الملابس والألوان والعطور وتسريحات الشّعر في الحفلات. أنا فتاة تمشي بحجابها في أماكن ترفضه، وتحتمل نظرات الكراهية والبغض والاتهام بالإرهاب. أمشي في شوارع نيويورك وقد أكون ضحيّة كتلك التي دفعها رجل عن الدّرج فكسر لها عظامها. أنا فتاة فقدت بعض الفرص بسبب حجابها، واستبدلت بعض الهوايات بغيرها بسبب احترامها لمواصفات حجابها. أنا محجّبة وحجابي أخاف منّي بعض المواطنين في أمريكا قبل أسابيع فرفضوا أن يصعدوا معي في المصعد بعد أن شتمني أحدهم ومضى مبتعداً".
دعيني أخبرك عزيزتي، إن لم تدركي بعدُ قوّتك، وإذا لم تعتبري هذا جهاد، فقد فاتك من الخير الكثير..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.