عايشت قصة نزوح كبيرة حدثت في اليمن بداية عام 2014 عندما استأسدت جماعة الحوثي المدعومة من إيران على مركز طلاب علم سلفي في منطقة لا تتجاوز 2 كيلو متر مربع تدعى" دماج" تقع شرق مدينة صعدة. بعد ثلاثة أشهر من الحصار المطبق تم الاتفاق على إخراج أهالي دماج من صعدة برعاية حكومية، وخرج من القرية قرابة 15 ألف نسمة من طلاب العلم وأطفالهم ونساؤهم في مشهد مؤلم كشف حجم حقد المليشيات وضعف الحكومة وقلة حيلة المناصرين.
ولأنني وقفت على الحصار وشاهدت آلام النساء والأطفال وهم يتزاحمون في ملاجئ صغيرة خوفاً من القصف، وكنت شاهداً على حجم المأساة التي تعرض لها أهالي دماج عندما تم تهجيرهم من منازلهم التي قضوا فيها عشرات السنين، لذا كنت متتبعاً لحظة بلحظة للحدث الأكبر والأهم في هذا العام، وهو مشهد الحرب في حلب وتهجير أكثر من 100 ألف نسمة من سكان المدينة إلى المجهول.
أتخيل نفسي وأنا أعيش أيام وليالي أهالي حلب والبراميل المتفجرة تسقط عليهم تباعاً في كل مكان، وفوق كل ذلك يأتي القرار الظالم بإخراجهم من ديارهم إلى مصير مجهول. |
إنه لوضع صعب وشعور غير محتمل أن يتم إخراجك من بيتك الذي قضيت تبنيه لبنة فوق أخرى حتى اكتمل، ومن أرضك التي زرعتها نخلاً وزيتوناً وكأني بأولئك المهجرين يتذكرون المشهد الأول في قصة الصراع العربي الصهيوني عندما تم تهجير سكان أرض فلسطين من ديارهم واحلال الصهاينة في أرضهم.
لكن مشاهد العزة والنخوة التي ظهرت لنا من أهالي حلب وهم يخرجون من ديارهم دفعت إلى قلبي الأمل أضعاف أضعاف الخيبة والحسرة على سقوط هذه المدينة التي احتضنت الثورة السورية منذ أول أيام انطلاقها ضد القاتل الأسد ومليشياته الطائفية المستوردة من دول عدة.
مشهد الخروج الكبير والباصات الخضراء التي اصطفت في انتظار أن تأذن لها المليشيات الطائفية بالخروج من حلب، مشهد الرجل الذي يحتضن رفيقه عمره وبندقه على كتفه بعد أن كتب على الجدران عبارة "إلى من شاركتني الحصار.. بحبك"، مشهد الطفل الذي خط على جدار بيته "عائدون يا حلب"، مشهد المرأة التي وقفت وهي ترتدي النظارة السوداء بعد أن خرجت من حدود حلب حاملة طفلها وهي تقول للكاميرا "لقد خرجنا من حلب ليس خوفاً من القصف لكن خوفا على أعراضنا أن تنتهك، وسنعود إليها منصورين". سألها المذيع: ما هو شعورك وأنت تغادرين حلب بعد صمود لمدة ست سنوات: ذرفت الدموع من عينيها وقالت "كثير صعب، ست سنين ونحن نناضل، كان المفترض أن نخرجهم من ديارنا وليس العكس، ولكن تلك الأيام نداولها بين الناس".
هذه المشاهد وغيرها كثيرة ألهبت في قلبي الشجن والألم والحسرة والأمل والعزة في الوقت ذاته، مشاعر الأمل بالنصر القادم لهذه الأمة التي وُعدت بالتمكين في الأرض بشرط أن تتحقق عوامل النصر والتمكين، ومشاعر الألم والحسرة على النساء والأطفال والشهداء والجرحى والآلام التي عاشها أهالي حلب خلال ست سنوات ماضية، ويعيشونها الآن في مصير مجهول بمخيمات الشتات.
حلب كشفت حجم الخداع الإعلامي والتشويه الذي تقوده دول غربية يتواطأ معها بعض النخبة العرب في تشويه الثورة السورية وزجها بأوصاف التطرف والإرهاب. |
أتخيل نفسي وأنا أعيش أيام وليالي أهالي حلب والبراميل المتفجرة تسقط عليهم تباعاً في كل مكان، وفوق كل ذلك يأتي القرار الظالم بإخراجهم من ديارهم إلى مصير مجهول، إنه لموقف صعب لا يقدر عليه إلا من وهبه الله صبراً وصموداً وشكراً لرب العالمين. والأغرب والأعجب أن تجد تصريحات لقيادات عربية من بينها وزير خارجية الجزائر وأصوات إعلامية مصرية باتهام أهالي حلب بالإرهاب وتقديم التبريكات لقاسم سليماني وبشار وبوتين بالانتصار على الإرهاب في حلب كما وصفوه.
هي إذن حلب، مدينة الثورة والحرب والحب والنزوح الكبير، وعندما خرج ويخرج الآن منها أهلها لم أجد فيهم تلك النظرة السوداء فسلاح الأمل ضارب بين أضلعهم ولديهم الثقة الكاملة بالعودة القريبة إلى ديارهم بعد زوال الغمة.
والرسالة الأخيرة أن حلب كشفت حجم الخداع الإعلامي والتشويه الذي تقوده دول غربية يتواطأ معها بعض النخبة العرب في تشويه الثورة السورية وزجها بأوصاف التطرف والإرهاب.. فقد عميت تلك الجهات عن إرهاب مليشيات إيرانية وعراقية ولبنانية وأفغانية وروسية وشبيحة بشار قدمت من كل مكان للانتقام من حلب لأنها رفضت حكم الديكتاتور العلوي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.