لا يوجد اختلاف جوهري بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، ومن هنا لا يوجد تداول حقيقي للسلطة في أمريكا، هذه الحقيقة التي صَدَمَ بها الدكتور عبد الوهاب المسيري زميله في جامعة كولومبيا "جون كافالتو"، تحول بعدها إلى شخصية يسارية مهمة، معادٍ لإسرائيل، يبحث عن صيغة سياسية تتجاوز النظام القائم. أتوقع أن هذه الحقيقة لن تصدمنا نحن العرب، فكثيراً ما سمعنا أثناء الانتخابات الأمريكية جملة "كلهم مثل بعض".
فيما يتعلق بخرافة التمثيل السياسي، فإنَّ الصوت الانتخابي العادي ليس القول الفصل في نتائج الاقتراع، إذ لا يكفي أن يحصل المرشح على أكبر عدد من أصوات الناخبين ليصبح الرئيس، فمصير ذلك مرهون بيد "المجمع الانتخابي" وعددهم 538 شخصاً ، يختارهم الحزب في مؤتمره الخاص، بالإضافة إلى قاعدة "الفائز يحصل على كل شيء" التي تُمكن الفائز أن يحصد جميع الأصوات (مثلاً: 600 ألف صوتوا للديموقراطي، 700 ألف صوتوا للجمهوري، إذاً الجمهوري يحصد جميع مقاعد مندوبي الولاية)، وفي حال التعادل أو عدم فوز أي من المتنافسين على الأغلبية فإن الكونجرس بمجلسيه يختار الرئيس.
يبدو أن عرابي الدستور الأمريكي قد اتخذوا موقفاً لا يثق في قدرة عامة الشعب على اتخاذ القرار السليم. |
بالإضافة إلى نظام سيرورة العملية الانتخابية، فنظام الحزبين في الولايات المتحدة يجعلهما يحتكران أكثر من 90 بالمئة من الأصوات، وتتنافس الأحزاب الأخرى (الخضر، الليبرتالي، الدستور، الإصلاح، المستقلون) على فواصل عشرية من باقي النسبة.
يبدو أن عرابي الدستور الأمريكي قد اتخذوا موقفاً لا يثق في قدرة عامة الشعب على اتخاذ القرار السليم، وهو ما دعاهم لوضع نظام يعطي الجماهير الحق في التعبير عن نفسها، ولكن تحت سيطرة نخبة أكثر حكمة، خشية من سيطرة مشاعر لحظية على العامة تؤدي إلى ما أطلقوا عليه (حكم الرعاع).
في الانتخابات الأخيرة كان الشعب الأمريكي أمام خيارين سيئين بالنسبة له، ففي استطلاع رأي للـ "CNN"، ينظر 60 بالمئة من الناخبين لترامب بنظرة سلبية مقابل 54 بالمئة ينظرون لكلينتون بذات النظرة، ويرى 63 بالمئة أن دونالد غير صادق وليس جديراً بالثقة، وينطبق ذلك على هيلاري بنسبة 61 بالمئة، ومع ذلك ليس لهم إلا الاختيار بين أمرين كلاهما مر.
حتى على مستوى الأحزاب، يبدو استياء على أنصار الحزب الديموقراطي من ترشح هيلاري التي تعتبر "يمينية" بالنسبة لحزب يمثل "اليسار"، واعتبر الكثير ممن أيدوا ساندرز (مستقل، يساري يجاهر باشتراكيته) أنه خسر بطريقة غير نزيهة، أظهر هذا شرخ كبير في قاعدة الحزب ما أدى أخيراً إلى خسارته الرئاسة ومجلسي الشيوخ والنواب وسيتبع هذا خسارته مؤسسات أخرى، النخب كذلك في الحزب الجمهوري، انقسموا بوضوح حول ترشح ترامب، الذي أحدث صدعاً في المجتمع لتبنيه خطاباً حاداً ضد بعض الأعراق والديانات.
في السياسة الخارجية لا فرق بين الحزبين الأزرق والأحمر، ففترة حكمهما عقب الحرب العالمية الثانية حتى الآن تساوت تقريباً (الديمقراطيون 36 عام، الجمهوريون 37 عام)، قضت أمريكا أكثر من نصفها في حروب (37 سنة)، نصيب الديموقراطي منها 20 سنة، والجمهوري 17 سنة.
في الحقيقة كانت الفترة (72 عام) كلها ملطخة بالدماء، فتدخلاتها العسكرية بمشاركة الأمم المتحدة (يوغسلافيا، الصومال…)، وحروبها الغير مباشرة من دعم الانقلابات (انقلابات تركيا، انقلاب باتيستا في كوبا)، إلى تدخلها في بلدان عديدة لدعم عملائها (عملية الخفاش الأزرق في لبنان بمشاركة 14000 جندي لدعم حكومة كميل شمعون)، وتاريخ زاخر بدعم الحركات الانفصالية، والحكومات الديكتاتورية، واغتيال المناوئين لسياساتها (حسني الزعيم، تشي جيفارا)، والحديث يطول حول هذا.
أعود لتلك البدهية التي طرحها الدكتور المسيري في الجزء الأول من كتابه "رحلتي الفكرية"، فلا اختلاف جوهري بين الحزبين، ويبقى الشعب المتعدد الأعراق القادم من شتى أصقاع الأرض لا يستطيع أن يختار غير ذلك إن شاء، بل لا يستحق ذلك، تلك الحقيقة التي تجاهر بها أمريكا، يقولها الدستور ويؤكدها التاريخ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.