في موجةٍ عاتيةٍ تواجه معظم الشباب وأمواجٍ متلاطمة تميل بهم وتنتاب يبزغ النور في كل حين.. أسئلة كثيرة تتبادر للأذهان وسؤال يتلوه سؤال عن بوصلة تشير للطريق وإجابات تشفي الغليل.. يظل الواحد منا حيران وينتابه شعور العجز والوهن والخذلان ويتمتم بعبارات كالهذيان.. ويبحث دوماً عن جواب.. ولكن دون جواب!
ذلك الشاب العربي الذي بات مثخناً من ويلات الحروب والنكبات والثورات ذلك الفتى الذي نشأ في ظرف يفوق عمره فبات ناضجاً وبات الشيب في رأسه قبل أوانه بات يردد دوماً ما السبيل؟ وما الحل؟ وحتى متى ذلكم العويل! الحروب تطحن بلادنا والموت صار يدق أبوابنا والعجز قد نخر عظامنا ولكن يشاء الله أن يُشعل نوراً وسراجاً لكل باحث عن الطريق كي يهتدي به ويصل إلى مراده ولو بعد سنين..
دروسٌ يبعث الشهيد بها للشباب يخبرهم أن الجهاد ليس فقط بالسلاح المجرد وأن الدفاع عن المقدسات يكون بما تملكه أيضاً من موهبة أو علم أو اطلاع. |
كان ذلك النور في يوم جمعة على شكل ثمان رصاصاتٍ غادرة فجّرت رأس الشهيد ورسمت معالم الطريق من جديد! احتجازٌ لأربع سيارات ومسدسين وجهازي كاتم صوت واعتقال عدد من الرجال يُعتقد أنهم متورطون في ذلك المشهد العصي. مشهد تم رسمه وتخطيطه بشكل دقيق ورصد لتحركات الشهيد منذ وصوله لبنان ومنها إلى تركيا وبعدها إلى مسقط رأسه مدينة صفاقس حيث أسرته..
صفاقس ثاني أكبر المدن التونسية وعاصمة الثقافة العربية لعام 2016 والتي خلدت اسم "محمد الزواري" ذلك البطل التونسي الذي أعاد للذاكرة مشاهد كثيرة من خلال التاريخ الحافل بين الشعب الفلسطيني والتونسي، حيث كان يتوجه قديماً أهل تونس المناضلون إلى فلسطين سيراً على الأقدام من أجل الدفاع عن فلسطين سنة 1948. وما محطة "حمام الشط" عام 1985 والتي اختلط فيها الدم الفلسطيني بالدم التونسي سوى محطة تجسد فيها الكثير من مبادئ الشعب التونسي، ولعل مقبرة الشهداء في حمام الشط وضمها لزعامات فلسطينية عديدة خير برهان ودليل على صدق الأخوة وتآلف القلوب..
فمنذ النكبة وحتى النكسة ثم الربيع العربي وتونس وفلسطين تجمعهما علاقة عميقة وطيدة هي علاقة العقيدة والدين وما أوثقها من علاقة.. علاقة شعوب متجذرة صادقة بعيداً عن أنظمة وسلطات زائفة زائلة.
"الزواري" الذي لم يأبه لحدود وضعها سايكس وبيكو وجعل نُصب عينيه حدود الله والجهاد في سبيله وجعل كلمة الحق تحلق في السماء وتخترق عروش الطغاة والصهاينة البغاة. ذلك الشهيد الذي كان يعمل ضمن "الوحدة الجوية" لجناح القسام ومتخصص في الإشراف على قطاع هندسة إنتاج "طائرات بدون طيار" أو ما يسمى بـ"الدرونز".
نعم "جندي مجهول" لكنه كان معروفاً في السماء قبل الأرض، فكم من مجهول في الأرض معروف في السماء لأنه أدرك معنى الإخلاص مع الله والسرية في التنظيم. |
نعم كان هناك يعمل ويعبر من الأنفاق -أنفاق غزة- ليجعل كلمة الله هي العليا، وكان يعمل أيضاً عن بُعد فلم تمنعه المسافة والبعد من أن يكون جندياً أصيلاً و"مجهولاً" في ذات الوقت في خندق الجهاد ضد المحتل ونصرة أعدل قضية -قضية القدس وفلسطين- ليبعث رسالة بعد ارتقائه لكل عامل بأن: لا تَرْكَن ولا تختلق الذرائع.. بل تقدم وبادر وحاذر!
نعم "جندي مجهول" لكنه كان معروفاً في السماء قبل الأرض، فكم من مجهول في الأرض معروف في السماء لأنه أدرك معنى الإخلاص مع الله والسرية في التنظيم. فحالُ تونس في عهد "زين الدين بن علي" لا يخفى على أحد فضلاً عن كونه حتماً تربى على السيرة النبوية التي بدأ فيها الرسول -عليه الصلاة والسلام- دعوته في مكة "سراً" وقد كانت مكة آنذاك مركز دين العرب ففيها الكعبة والأوثان وهو لوحده عليه الصلاة والسلام فكان بطلنا مقتدياً بالمصطفى في سرية عمله في وقت ما، فكم كان مجهولاً طيلة عشر سنوات وكم أصبح معروفاً بين الناس اليوم هذا يذكرنا بحديث الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَّلَهُ.. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا عَسَّلُهُ؟ قَالَ: يَفْتَحُ لَهُ عَمَلاً صَالِحًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلُهُ".
ذلك الشهيد الذي ابتكر بهندسته الكثير وأشرف على مشروع طائرات "الأبابيل القسامية" التي كان لها دور في حرب العصف المأكول عام 2014 والذي ارتقى في يوم 15/12/2016 إلى جنات الخلد وحور عين هو ذلك البطل الذي يحيي في الشباب روح النصر والتمكين..
دروسٌ يبعث الشهيد بها للشباب يخبرهم أن الجهاد ليس فقط بالسلاح المجرد وأن الدفاع عن المقدسات يكون بما تملكه أيضاً من موهبة أو علم أو اطلاع يخبرهم بأن: "أي عمل يقربكم من القدس وفلسطين فعليكم به" يخبرهم أن الأمل مازال معقوداً بين عيون الطامحين الفاتحين المحررين وأن العجز واليأس هو من صفات المتخاذلين القاعدين..
عَلَمْتنا يا زواري معنى أن نكون مع الله، علمتنا يا طيار فلسطين كيف يكون التحليق والطيران، علمتنا يا مهندس الأبابيل معنى الهندسة الأصيل. |
حادثة الاغتيال تلك تعيد للذاكرة اغتيالات لرموز فلسطينية بالأراضي التونسية وأبرزها محاولة اغتيال الشهيد زعيم الجناح العسكري في حركة "فتح" "خليل الوزير" عام 1988 بالتزامن مع أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتذكرنا أيضاً باغتيال الشهيد "محمود المبحوح" القيادي في حركة "حماس" بمدينة دبي عام 2010 والمحاولة الفاشلة لاغتيال السيد خالد مشعل زعيم المكتب السياسي لحركة "حماس″ في الأردن عام 1995..
هذا يؤكد لنا مرة بعد مرة أن عدونا الحقيقي هو العدو الصهيوني "إسرائيل" وأن أذرعته كانت ومازالت تصول وتجول في بلادنا العربية وليس فقط في فلسطين وأنه صار ينهش لحومنا دون رقيب أو حسيب!
رحل "الزواري" ولكنه خلّد خلفه هذا التاريخ وتلك السيرة ليكون زاداً لكل شاب في رحلة الفتح والنصر والتحرير ليكون ناقوساً يدق في الأذهان كلما دبّ اليأس في القلوب والأبدان.. رحل ولكن المحتل الغاصب لم يرحل بعد فدَوري ودورك أنت يا من تقرأ هذه الكلمات لم ينته بعد والعمل الدؤوب لنصرة القدس وفلسطين وكل جرح إسلامي هو واجب عقدي وفريضة على كل حر أبيّ أراد أن يلقى الله بوجه ناضر إلى ربه ناظر..
لعمرك هذا ممات الرجال.. ومن رام موتاً شريفاً فذا عَلَمْتنا يا زواري معنى أن نكون مع الله، علمتنا يا طيار فلسطين كيف يكون التحليق والطيران، علمتنا يا مهندس الأبابيل معنى الهندسة الأصيل، علمتنا يا شهيد كيف يكون الإخلاص والتوحيد، علمتنا يا قسامي كيف أن العمل مع الله لا تحده حدود أو قيود.. فكم لله من عباد أخفياء أتقياء إذا أردوا أراد..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.