انطلاقا من كميات السخرية التي أكالَها برنارد شو في حياته، يحلو لي اليوم بعد أن سمعت اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب أن أستعير شيئا مما قال: "إنني أغفر لنوبل أنه اخترع الديناميت، لكنني لا أغفر له أنه اخترع جائزة نوبل". يا ترى ما كان سيدور في خلد برنارد شو إذا سمع بذلك الخبر مثلي وهو يحتسي قهوته الصباحية، شو الذي استطاع أن يغفر لنوبل تأسيس 90 مصنع أسلحة، هل سيستطيع أن يغفر له شيئا كما سبق، دعونا نحاول أن نعرف.
إذا أردت أن تغتال أديباً بطريقة سلمية، فقط اخلق له الحدود، هذا الأمر الجلل الذي لم يستطع أن يغفره برنارد شو أبدا لنوبل. |
روبرت ألن زيمرمان أو بوب ديلان كما يحلو لمريديه مناداته، مغني وملحن وشاعر وفنان أمريكي، صاحب مسيرة تعدت الخمسة عقود من الفن، بوب ديلان الذي انتهج الطريقة الشعبية في فنّه وأغانيه وأساليبه اليوم يحصل على أرقى جائزة أدبية معترف بها في المحافل الدولية، ديلان الذي ثارت حوله ضجة كبيرة سابقا في فرنسا عند تقليده وسام جوقة الشّرف، الوسام العريق العائد إلى فترة نابليون، إذن ما الأمر؟
بكلّ بساطة أستطيع تلخيص سرّ عباءة نوبل تلك، التي حطّت على أكتاف ديلان بـ موضة العصر ومواكبتها التي تخوّل صاحب أيّ مركز مسوَّق إلى نيل ما هو الأبعد من نوبل، إن الحقوق المدنية والإنسانية والسلام والتأثير السياسي والفلسفي والاجتماعي كل تلك المواضيع التي حفرها ديلين عميقا في أغانيه وفنّه وحتى ألحانه أعطته القدرة على مواكبة الذوق الأمريكي البعيد كل البعد عن الطرق الأدبية الرصينة، يعود ويعلّق برنارد شو عن ذلك الطبع الأمريكي بقوله: "أمريكا ذلك البلد الذي انتقل من البدائية إلى الانحلال دون أن يعرف الحضارة"، ما أسهل اليوم أن تطرح فكرة علمية أو أدبية إذا كانت متوافقة مع موضة العصر في ذلك التخصص.
إذا أردت أن تغتال أديباً بطريقة سلمية، فقط اخلق له الحدود، هذا الأمر الجلل الذي لم يستطع أن يغفره برنارد شو أبدا لنوبل، ثم إن نيشان نوبل المزعوم الذي هو على حد وصف شو بطوق نجاة لشخص وصل إلى بر الأمان وضع حدود التفرقة وخلق طبقات جديدة بين الرياديين على جميع العصور والتخصصات، لماذا لا تعط تلك الجوائز والأطواق لأدباء تشفع لهم حرفيّتهم فقط لا مقدار كم يحجز أدبهم من رفوف المكتبات، عندما لم يستطع نوبل مسامحة نفسه في رسائله مع بريتا كان حريّا أيضا بشو أن لا يسامحه وحرياً بنا نحن أيضا.
مع تقدم الأزمان وتطور الحضارات نلاحظ تغيّرا كبير في الذوق العام لمجتمع ما، فالمجتمع الذي كان يوما من الأيام يهوى الطعام الدسم مثلا، هو اليوم يطرق ذوقا آخر في الطّعام، وكذلك في الذوق الأدبي، فالمجتمع الغربي الذي ما زال يعبد شكسبير، تغيّر طباعه وأصبح شكسبير محتكرا فقط على رواد الجامعات الأدبية المرموقة وقسم محدد من الكتاب والشعراء فقط لا غير، والجائزة التي أعطيت يوما لسارتر ورفضها، اليوم تعطى لبوب ديلان في تغيّر واضح لتتناسب الجائزة ثابتة المعايبر والأحكام والمقاييس مع ذوق مجتمع، الأمر الذي أشبه ما يكون في مهزلة تتستّر بالديموقراطية بشكل مخجل.
على المستوى العربي مثلا، كان طريق أحمد عدوية في يوم من الأيام إلى هوليوود أقرب بكثير إليه من طريق التلفزيون الرسمي المصري، لكن اليوم أصبح يتغنى به شعبيا ووطنيا كأنه من أصحاب الفكر وروّاد الثقافة، ذلك أنه إذا تغيّرت الأذواق وتغيّرت الأنظمة والقوانين فوظيفة الجوائز والألقاب أن تحافظ على ثبوتيتها وأن لا تنحرف نحو أذواق وهوى شعبي أو مطامع سياسية أو استراتيجية معيّنة من أجل الحفاظ على نتاج بشري بعيدا عن الانحدار.
نحن هنا الآن أمام جائزة عندما كانت تسلك المسلك الصحيح كانت مخطئة في خلق الحدود والفوارق، وعندما ابتعدت عن مسلكها ذاك تخلت عن وظيفتها التي صنعت لأجلها، لذلك نحن اليوم أمام جائزة لا تختلف كثيرا عن جوائز اللوتو.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.