مسلسل "سيزيف، الأسطورة".. كيف تروي القصة ذاتها 4 مرات في عمل واحد؟
يتخذ الخيال الكوري الجنوبي في الدراما التلفزيونية مسارا مختلفا تماما عن غيره، إذ يطمح المبدع لتجسيد مساحات غير ملموسة أو حتى مستحيلة التصور.
وتتجاوز نسبة كبيرة من المسلسلات الخط الفاصل بين الحياة والموت، كما تشهد أحداثها عودة الموتى إلى الحياة أو ظهورهم في بعد آخر غير مرئي للبشر العاديين، والعكس، لكن مسلسل "سيزيف، الأسطورة" (Sisyphus Mito) الذي يعرض على "نتفليكس" يمعن في اللعب ببعدي الزمان والمكان، ليعيد سرد قصته مرارا وتكرارا وفي كل مرة يقدم نسخة مختلفة مفعمة بالمزيد من الحقائق الدرامية، ليناقش الفكرة الأصلية، والتي تدور حول الندم وإمكانية العودة بالزمن لإصلاح الأخطاء التي أدت إلى دمار العالم.
أسطورة يونانية وقصة كورية
"سيزيف، الأسطورة" مسلسل مربك، فهو يمزج بين أقصى مساحات الخيال والأسئلة الفلسفية العميقة، مستعينا في ذلك بأسلوب سردي بسيط، ويحكي قصة العمل من منظور أحد الأبطال انطلاقا من مشهد رئيس محدد، وحين يصل إلى نقطة الحقيقة حوله، يعود للمشهد الرئيس السابق ليعيد سرد الحكاية من منظور بطل آخر، وهكذا حتى تنتهي القصة إلى بداية جديدة، لينطلق مرة أخرى من مشهد رئيس آخر حول كل بطل على حدة.
وتتجاهل أحداث المسلسل المنطق البشري العادي، لذلك من المهم للمشاهد أن ينحي جانبا فكرة المنطق، ويتعامل مع المنطق الخاص للعمل، الذي يجمع أبطاله على الندم على ماضيهم، ويعود أغلبهم من المستقبل لإصلاحه.
جاءت الاستعانة بالقصة الأسطورية لشخصية "سيزيف" بمثابة إضاءة ساطعة على رسالة العمل، و"سيزيف" هو شخصية خيالية من الأساطير اليونانية حُكِم عليه بدفع صخرة كبيرة إلى أعلى الجبل، لتتدحرج إلى أسفل، مما أجبره على تكرار هذه الدورة التي لا نهاية لها، وهو ما يعكس محاولات الأبطال العبثية واليائسة للتحرر من خطاياهم السابقة، وتغيير مصائرهم.
"سيزيف، الأسطورة" من إخراج جين هيوك وكتبه لي جي إن، وبطولة اثنين من الممثلين الكوريين الرائدين، وهما تشو سونغ وو، وبارك شين هاي.
تدور القصة حول هان تاي سول (تشو سونغ وو)، وهو مهندس عبقري، اخترع آلة يمكنها التلاعب بنسيج الزمكان، ونقل الإنسان والأشياء من المستقبل إلى الماضي، والعكس.
يجذب اختراعه انتباه كيانات قوية وخطيرة. يتعرض هان تاي سول لمؤامرة، ولكنه يحاول الوصول إلى الحقيقة ومع كل خطوة إلى الأمام يرى مصيرا مظلما تماما وهو نشوب حرب نووية تقضي على كوريا الجنوبية.
تظهر كانج كيونج هوي (بارك شين هاي)، القادمة من المستقبل لتغيير الماضي ومنع نشوب الحرب، وتساعد هان تاي سول في التنقل عبر الزمن باعتباره لم يكن قد أنجز اختراعه في لحظة وصولها إليه، وتقدم رؤى غامضة حول ماضيه وحاضره ومستقبله. يسافران معا عبر الزمن، ليكتشفا الحقيقة المروعة التي خلفها الاختراع.
يطرح المسلسل سؤال الجبر والاختيار على طريقته الخاصة، متسائلا عما إذا كانت الأفعال تشكل المصائر حقا أم أن البشرية محكوم عليها بتكرار التاريخ مثل سيزيف، وتمثل أسطورة سيزيف رمزا للحالة الإنسانية، حيث يقع الأفراد في صراع أبدي، ويدفعون ضد قوى لا يمكنهم السيطرة عليها.
قدم بطلا العمل حالة تناغم جيدة، ساهمت في إضفاء لمسة رومانسية خفيفة الظل على العمل، وقد اشتهر تشو سونغ بأدائه الملتزم بكل تفصيله للشخصية، وأضافت الطبيعة الدرامية لدوره تعاطفا جماهيريا، أضافت بارك شين هاي بخفة روحها وجمالها الهادئ لمسة حالمة على العمل رغم شراستها في القتال.
دور المونتاج
يلعب المونتاج في المسلسل دورا رئيسا، فقد استخدم لصناعة تعقيدات سردية مقصودة أحيانا، كما تم توظيفه لتبسيط الحكاية التي تعتمد الانتقال عبر الزمن والمكان أساسا للدراما، لكنه أيضا استخدم للحفاظ على التشويق والإثارة المطلوبين لمتابعة المشاهدة، وأيضا لنقل العمق النفسي والعاطفي للشخصيات.
ولأن صناع العمل يدركون مدى تعقيد الدراما، فقد قاموا بتقسيمه لما يشبه فصول الكتاب، وتكفل المونتاج بذلك في الجزء البصري، إذ لا تتكشف المشاهد دائما بترتيب زمني تقليدي بسبب استخدام الأسلوب "غير الخطي" (Non-linear) لكشف تأثير كل حدث على الحدث التالي، وهو ما حافظ على تفاعل المشاهد من خلال الحفاظ على جو من الغموض.
حافظ المونتاج على إيقاع المعارك والمطاردات السريعة بالمشهد القصير، والقطع السريع، بنفس القدر الذي ظهر في حفاظه على عاطفية وهدوء المشاهد الإنسانية، وخاصة في حالات التعبير عن الافتقاد وهي مكررة وكثيرة داخل العمل، حتى إنه يمكن القول إن كل أبطال العمل يفتقدون آخرين.
ولا يقل مكساج الصوت إبهارا عن مونتاج الصورة، إذ إنه رغم الصخب الدرامي، فقد جاء المسلسل هادئا مفعما بالتعبير البصري، والسيطرة التامة على أصوات الصواريخ والدمار، ورغم ذلك حافظ على التوتر قائما حتى النهاية.
الخوف والتخويف
نوعان من الخوف يصورهما المسلسل، وكأنهما فكا الرحى اللذان يطحنان المواطن الكوري الجنوبي، أحدهما من خارج كوريا الجنوبية والثاني من داخلها. لا يصور مخرج العمل واقع الخوف بين كوريا الشمالية والجنوبية من خلال خطاب سياسي صريح رغم وجود العديد من الشخصيات التي تشغل المناصب العسكرية، ولكن من خلال موضوعات السفر عبر الزمن لاستكشاف التوترات النفسية والاجتماعية التي تتخلل شبه الجزيرة الكورية كنتيجة مباشرة للصراع الطويل بين الكوريتين. ويأتي الشعور المستمر بعدم اليقين والخوف من المجهول كانعكاس للوضع الذي يجد الكوريون الجنوبيون أنفسهم فيه.
ويأتي النوع الثاني من الخوف من داخل النظام الكوري الجنوبي نفسه -طبقا للعمل الدرامي- متمثلا في "مكتب المراقبة" أو " المكتب رقم 7″ الغامض الذي يعج بالفساد والمواقف المسبقة ضد المهاجرين، ويملك سلطة مطلقة تصل لدرجة القتل من دون حساب.
وتشكل أسطورة سيزيف استعارة في سياق اجتماعي سياسي وصراع ذي طبيعة دورية عند شبه الجزيرة الكورية، فالبداية المكررة في النشرات الإخبارية دائما هي اندلاع أعمال عنف متفرقة، ثم وقف إطلاق النار، ومحادثات سلام فاشلة. إنها نسخة حديثة من هذا الصراع العبثي الأبدي.
رغم المتاهة الزمنية والدرامية في "سيزيف، الأسطورة"، فإن ثمة عناصر رئيسة صنعت نجاح المسلسل، بينها أناقة التصوير والدور البطولي للمونتاج وأداء بطليه الرئيسيين، لكن ذلك النجاح الفني المبهر قدم مشهدا بائسا للخوف الذي تحول إلى واقع صلب بين نصفي شعب كوريا في الشمال وفي الجنوب.